شعار قسم مدونات

أنت لست كاتبا

blogs - writer
لا أستطيع أن أمنحك تعريفا للكاتب، إنها صفة أكبر من الاحتواء، لكني أستطيع أن أقول أنك لست كاتبا حقيقيا! لا أحد اتهمك بالجنون والمزاجية، وأنك طائش، وأنك تائه وشارد الفكر والبصر كثيرا، وأنك تميل إلى الخلوة، وأنك مهما تتحدث هناك أشياء تتكتم عليها، وأنك غير طبيعي أو غير عادي.

إنهم يريدون القول لك بعد كل تلك الاتهامات الطازجة والساخنة أنك مضطرب نفسيا أو بك مس من الشيطان، وأنه عليك بطبيب من خريجي مدرسة سيجموند فرويد، أو عليك بأشهر معالجي المس الشيطاني بما يتناسب مع معتقدك، لكنهم سيترددون في مصارحتك بهذا الأخير، يعتقدون أنه خطاب خارج عن اللباقة ومثير للحساسية.

في حين أن الكاتب الحقيقي يشعر بالقلق الفلسفي إذا تأخر في سماع هذا النوع الخطابي يتردد عليه بشكل نسبي، هو لن يسعى لسماعه، لأن السعي إليه زيف، سيأتيه بصيغة التأثيم وربما المعايرة، لكنه سيطمئن عند سماعه، لأنه يراه دليلا ثبوتيا على انتمائه لزمرة ازداد المتطفلون على جنتها. أما أنت فلا أحد وجه لك أدنى إصابع الاتهام، ولعلها وجهت لك فرفعت صوتك بالويل ودعوة الثبور، ولذا أنت لست كاتبا حقيقيا.
 

الكاتب يبدو للآخرين مراهقا طائشا على اختلاف مراحله العمرية، وأنه إنسان يقتفي أثر المشاكل والخطر، لكن الحقيقة غير ذلك، فهو يتعامل مع كل شيء حوله بجدية.

عندما تسلل حديث أمي السري عني من فتحة الباب، وتكشف لسمعي، كانت تقول: إنها ليست بخيروراحت تعدد له ما سلف، فلما أنهت جملة مخاوفها، أجابها أبي بنبرة من صار على يقين بحقيقة شيء ما أكثر من أي وقت مضى: -إنها كاتبة. إن كثير الفرح بالنسبة للكاتب ترف، وإن قليله يكفي للاستمرار على قيد الحياة التجريبية.

أما زحمة الحزن فهي ثراؤه المحمود، ورزقه الممدود للبقاء على قيد الحياة التجريدية أو بالأحرى الورقية، ولذا حزنه أنيق، يعيشه بمتعة منقطعة النظير، يخاطب حزنه واغترابه يقول: اصفعني بموجك كي أصل إلى الشط، إنني في حاجة إلى الشعور بخطر الغرق وصفعات الموج الهائج كي أصل إلى البر وأنجو.
 

ولذا وهبه ربه ملكة الإحساس والهشاشة، أقول الهشاشة ولا لفظ غيرها، فليست الهشاشة كالضعف، وقد تجتمع الهشاشة والقوة في الكاتب، بل تجتمعان في صورة أثيرية، أما أنت فلست حزينا بما يكفي لتكون كاتبا حقيقيا. ثم إنه في انطوائه هو فقط يلبي نداء الإلهام في داخله، ويلبي حاجته الملحة إلى الاختلاء بنفسه.وإنه أصدق الناس حبا، وأكثر الناس فهما للناس وعطفا عليهم.

لأن هؤلاء محل دراسة لديه، إنهم مشروع شخصيات تحرك نصه المقدس، وبالتالي مساعيه لقراءة غيره تجعله أكثرهم فهما لهم وعطفا عليهم، ورغم ذلك هو لا يحاول فرض هيمنته عليهم، يحترم حريات الآخرين، وفي المقابل يكره من يحشر أنفه في شؤونه، ويحاول فرض نوع من السيطرة عليه، يحب أن يكون حرا، إنه عاشق للحرية، وهي شرط من شروط العملية الإبداعية، ولكنك لست كذلك، ولذا أنت لست كاتبا حقيقيا.

نعم، هو يفهم الآخرين، وعلى العكس من ذلك الآخرين يجدون صعوبة في فهمه، تبدو لهم شخصيته غامضة ومركبة، أو بالأحرى معقدة، مهما حاول أن يكون عاديا وبسيطا سيبقى في نظرهم غير ذلك، وهذا ليس ذنبه لاشك، فالقليل من الاطلاع على مزاج أو سيكولوجية وشخصية الكاتب، يمكن أن يحقق بعض الفهم أو كله، وإن المرء أحيانا يكون في حاجة إلى من يفهمه أكثر من حاجته إلى من يحبه، الفهم يستطيع أن يخلق حبا، أما الحب في غياب الفهم سيفضي إلى نهاية تراجيدية حتما، قد تكون هذه النهاية شعورا متطرفا هو الكراهية.

والكاتب يحترم الفن والقيم الجمالية جدا، وعلى الأرجح هو يمارس نوعا فنيا معينا، كما أنه يحترم منطق العواطف ويستجيب لندائه، فيما يتحاشى الخطاب العقلاني الذي يقوم بتغييب أو تجاهل اللغة القلبية، لأن اللغة القلبية بالنسبة له هي ما يضفي على الخطاب العقلاني لمسة إنسانية وجمالية، فالخطاب العقلاني ما لم تكن له نكهة قلبية هو خطاب آلة لا غير.

والقدامى في مقدمتهم "ديكارت" هم من اعتبروا القلب مجرد مضخة وآلة، والعلم الحديث هو من كفل للقلب حق العواطف، وقد قال الشاعر الرومانتيكي الإنجليزي "جون كيتس" : لست متيقنا من شيء سوى قدسية عواطف القلب، وحقيقة المخيلة.

ثم إنه في انطوائه هو فقط يلبي نداء الإلهام في داخله، ويلبي حاجته الملحة إلى الاختلاء بنفسه.وإنه أصدق الناس حبا، وأكثر الناس فهما للناس وعطفا عليهم.

والكاتب يبدو للآخرين مراهقا طائشا على اختلاف مراحله العمرية، وأنه إنسان يقتفي أثر المشاكل والخطر، لكن الحقيقة غير ذلك، فهو يتعامل مع كل شيء حوله بجدية، حتى تلك التفاصيل التي قد تبدو لغيره ساذجة وتافهة قد تستوقفه، إنه يبحث ويستكشف، ليس من أجل البحث والاستكشاف، ولكن من أجل الكتابة، فهو يرفض أن يكون متلقيا للنظريات وناقلا لها فقط، ولذا يتورط في التجريب، أو يقترب من المحيط الفعلي أشد الاقتراب ليقف على المعاينة بنفسه.

والكاتب هنا يتعرض إلى محاكمة غير عادلة، خاصة المحاكمة الأخلاقية التي يتم فيها تلفيق التهم له من خلال نصوصه، فيجد نفسه يتحمل مسؤولية وزره الإبداعي وأوزار أبطاله. وكل الحديث الوارد في هذا النص يسقط على الكاتبة أيضا، وإنما غلبنا صيغة المذكر على طريقة شعراء العرب، فأين أنت من كل الذي سلف ذكره؟!

إنني لا أخبرك هنا كيف تصير كاتبا، ولا أستطيع وضع جدران حدودية لماهية الكاتب، فهي صفة أكثر فضفضة من كل ضيق. ولكني أستطيع أن أجزم أنك لست كاتبا حقيقيا، وعليك أن تعرف ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.