شعار قسم مدونات

هل تكون المرأة رئيسة لهيئة كبار العلماء؟

مدونات - المرأة العالمة
خلق الله تعالى الناس من ذكر وأنثى ؛ لمقاصد جليلة تتمثل في التعارف والتعاون على عبادة الله تعالى وتعمير الأرض والارتقاء بالإنسانية أفرادا وجماعاتٍ ، ولا يتأتى للنوع الإنساني بذكوره وإناثه أداء هذه المهمة الجليلة إلا بالعلم والعمل، فهما كجناحي الطائر لا غنًى له عن واحد منهما، ولما كان العلم على هذا القدر من الأهمية كان لا بد أن يكفل الشرع الحنيف فرص التعلم والترقي المعرفي لكلا الجنسين؛ إذ لا شك أن الإنسان العالِم أقدر من غيره على إنجاز المهمة التي خلقنا من أجلها.

ولقد كان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم حريصًا كل الحرص على تعليم النساء؛ حتى إنه صلى الله عليه وسلم خصص درسًا لهن في بيت إحداهن، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا يَا رَسُولَ اللهِ نَأْتِيكَ فِيهِ، فَوَاعَدَهُنَّ مِيعَادًا، فَأَمَرَهُنَّ وَوَعَظَهُنَّ، وَقَالَ: "مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ يَمُوتُ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، إِلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ " فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَوِ اثْنَيْنِ؟ فَإِنَّهُ مَاتَ لِي اثْنَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوِ اثْنَيْنِ". متفق عليه.

وامتدحت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار الكريمات؛ لحرصهن على التعلم حتى في الشؤون التي تستحى النساء من السؤال عنها عادة، فقالت عائشة رضي الله عنها: (نعم النساء نساء الأنصار؛ لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) رواه مسلم.

المرأة المتعلمة (التي جمعت بين الالتزام بدينها وبين اكتساب المعارف والثقافات) هي أثمن كنز تملكه الأمة الإسلامية ؛ لأن هذه المرأة المنشودة هي الأقدر على صناعة أجيال إسلامية قوية قادرة على تحقيق نهضة الأمة وفقا لمنهج الله تعالى.

وقد ذكر العلماء أن من حكمة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم الكريمات: نقل العلم الذي يرينه داخل البيت النبوي الكريم إلى جمهور الأمة؛ وذلك حتى لا يفوت على الأمة أي هدي نبوي كريم يحتاج إليه المسلم وكل إنسان يرغب في الاقتداء بحضرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في مختلف شؤون الحياة؛ فقد شاءت الحكمة الإلهية البالغة أن يكون المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الوحيد الذي تكون حياته بتفصيلاتها كتابا مفتوحًا يقرؤه كل طالب للفضيلة ناشد للكمال راغب في التأسي بسيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. إذن فالمرأة المسلمة ليست مطالَبة بالتعلم فحسب، بل إن دورها العلمي يتجاوز ذلك إلى التعليم ونشر الدعوة ما أمكنها ذلك.

نماذج مضيئة من سِيَر فقيهات الأمة:
كان من ثمرة عناية الإسلام بتعليم المرأة أن وصلت المرأة في الإسلام إلى أرفع الدرجات العلمية وهي درجة الاجتهاد التي تمكن صاحبها من الاستقلال باستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها. فقد برع في الفقه والفتوى جمهرة من النسوة الثقات في العصر النبوي وما تلاه ، وهذا يعكس فهم المجتمع النبوي أن الإسلام حريص على تشجيع المرأة على الترقي في مدارج العلم والمعرفة من غير حجر أو تضييق؛ كيف وقد جعل الله تعالى أهل العلم على الحقيقة هم أهل الخشية على الحقيقة فقال عز من قائل: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر: 28)، أو ليس الشرع الكريم حريصا على تربية المرأة المسلمة على الخشية التي يعد العلم النافع من أسباب حصولها في القلب المؤمن؟ من هنا ندرك أن كل محاولة للحجر على الترقي المعرفي للمرأة المسلمة ناشئ عن سوء لفهم لحقائق الشريعة ومقاصدها التي تجلت بوضوح في العصر النبوي وما تلاه.

ومن أعظم النسوة المسلمات اللاتي برعن في ميدان العلم والفقه: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وهي الصدّيقة التي تعد أشهر فقيهات الصحابة بل والأمة حتى يومنا هذا، ولقد ورد في مناقبها عموما (ومكانتها العلمية خصوصا) الكثيرُ والكثيرُ، حتى إن من المؤرخين من صنف المصنفات الخاصة في بيان فضائل عائشة رضي الله عنها، ومن ذلك كتاب: (فضل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها) للحافظ ابن عساكر الدمشقي، وغيره كثير مما صنفه المتقدمون والمتأخرون.

وقد اشتهرت أم المؤمنين رضي الله عنها بامتلاكها الملكة النقدية التي أتاحت لها التعقيب على كبار فقهاء الصحابة ومناقشتهم، سواء من ناحية الرواية أو من ناحية الدراية، ومن ذلك أنها ناقشت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في روايته حديث: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) متفق عليه، ورأت التعارض قائمًا بينه وبين قوله تعالى: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" (الأنعام: 164) وما في معناه؛ فقد أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ (وَاللَّفْظُ لَهُ) عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ وَذُكِرَ لَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَقُوْلُ: (إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ)) فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللهُ لِأَبِيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ يَكْذِبُ، ولَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُوْدِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ: ((إِنَّهُمْ يَبْكُوْنَ عَلَيْهَا، وإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِيْ قَبْرِهَا).

كل محاولة لحرمان المرأة من الترقي العلمي هي خروج عن مقصد الشرع الحنيف ناشئ عن سوء الفهم وتغليب الأعراف الحادثة على حقائق الشريعة المطهرة.

وقد صنف الإمام الزركشي رحمه الله تعالى مصنفا خاصا سماه: (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) وجمع فيه ما وقف عليه من تلك المناقشات (العائشية) مع تفصيل البيان لفضائل أم المؤمنين رضي الله عنها عامة ومناقبها العلمية والفقهية خاصة. وسواء كان الصواب (في هذه الخلافات العلمية) في رأي عائشة رضي الله عنها أو في رأي مخالفيها؛ فالذي يعنينا في هذا المقام هو بيان أن المرأة المسلمة كان المجتمع يكفل لها كامل الحرية في البحث والنظر والنقد دون حجر عليها في شيء من ذلك.

ولقد بلغت كفالة المجتمع للمرأة حرية البحث والنقد أن المرأة اعترضت على رأس الدولة في المحافل العامة، وجهرت بتخطئته دونما خوف من إبداء المعارضة أو حذر من سوء العاقبة، وقد تجلى هذا في حادثة اعتراض المرأة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نهى الناس عن المغالاة في المهور، واحتجت عليه بقوله تعالى: "وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا" (النساء: 20) ورجع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى رأي المرأة، وقال: (أصابت المرأة وأخطأ عمر). فقارن هذا الرقي الحضاري مثلا بمدينة أفلاطون الفاضلة التي قسم الناس فيها إلى طبقات، وجعل طبقة النساء من أسفل الطبقات ، وجعلهن مشاعا بين الحكام ورجال الطبقة الأولى!

ومما سبق أود أن أؤكد على الحقائق الآتية:
• إن الحرص على تعليم المرأة وترقيها في مدارج المعرفة هو مقصد إسلامي أصيل له من الشواهد ما لا ينحصر، وله من التطبيقات الكثير والكثير منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا.
• إن كل محاولة لحرمان المرأة من الترقي العلمي هي خروج عن مقصد الشرع الحنيف ناشئ عن سوء الفهم وتغليب الأعراف الحادثة على حقائق الشريعة المطهرة.
• إن المرأة المتعلمة (التي جمعت بين الالتزام بدينها وبين اكتساب المعارف والثقافات) هي أثمن كنز تملكه الأمة الإسلامية؛ لأن هذه المرأة المنشودة هي الأقدر على صناعة أجيال إسلامية قوية قادرة على تحقيق نهضة الأمة وفقا لمنهج الله تعالى.
• ليس في الشرع ما يمنع من تولي المرأة أرفع المناصب العلمية طالما كانت تمتلك الأهلية التي تمكنها من تبوءِ هذا المنصب عن جدارة واستحقاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.