شعار قسم مدونات

لماذا يهاجمون ابن باديس؟ (3)

blogs ابن باديس

هل يُمكن-حين نَتكلم عن المدرسة الفكرية أو التاريخية للشيخ عبد الحميد بن باديس-أن نحصره في تيار إيديولوجي واحد؟ إنه فعلا سؤال حقيقٌ بالبحث رغم أن الذي يَظهر من مداخلاته الخطابية أو القَلَمِيّة، تُوحي بِتَوَجِّهٍ معين، إنها فعلا أكبر المغالطات أن نقرأ ابن باديس قراءة أحادية.. قد كانت أهم التيارات الأيديولوجية التي حركت العالم الإسلامي في مُستهلّ القرن العشرين؛ تتلخص في الكمالية الأتاتوركية، أو الوهابية الحجازية، أو التمدُّنية الغربيَّة، أو المادية المطلقة، وكلُّها لم تنسجم مع الحَتميَّة التاريخية للشعوب العربية الإسلامية.

أظن أن المصطلح الأمثل الذي يُعرِّفُنا بالمدرسة التي كان ينتمي إليها ابن باديس هي الفكرة الإصلاحية، فالإصلاح وحده هو النواة المركزية التي كانت كل خطاباته ومداخلاته العلمية تدور في فلكها.. دون ذلك ستظهر أعمال ابن باديس مُشَتَّتَة لا يربط بينها رابط..

علينا أن نعود للدَّعوات الإصلاحية التي نشطت وبرزت قبل ابن باديس؛ غير أنها افتقدت للسبب الفِعلي في نجاح المسيرة الباديسية، إنها سلسة من العلماء زرعوا بذرة الإصلاح في النخبة الجزائرية، متأثرين بكيفية أو بأخرى بدعوات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ممثلة في محمد بن أبي شنب وأبي القاسم الحفناوي و محمد بن الخوجة وعبد الحليم بن سماية وصولا إلى المعلم الكبير عبد القادر بن المجاوي الذي كان من أهم تلاميذه حمدان لونيسي شيخ ابن باديس الأوّل، غير أن ذلك الرّعيل وإن نجح في ترسيخ فكرة الإصلاح لدى بعض النخب الجزائرية فإنها لم تنجح في تفعيلها وتعميمها لدى الطبقات الشعبية؛ ولم تَنْفذ بها إلى قلوب عموم الجماهير الجزائرية كما فعل ذلك ابن باديس، ولأنها كانت -بحكم وظائفها الرسمية- عاجزة عن إحداث تغيير حقيقي، ولذلك كانت نصيحة شيخه الأولى أن لا يرتبط بوظيفة لدى المستعمر؛ وبهذا نصح ابن باديس جميع تلاميذه؛ وبهذا نجح في تفعيل فكرته..
 

لم يكن متناقضا أبدا حين نادى ابن باديس بالجامعة الإسلامية ضمن رؤية واقعية يكون فيها التضامن الإسلامي مبنيا على نظام عصري واقعي لا يُكَرِّرُ أخطاءَ الماضي.. وإيمانا منه بأن الإصلاح لا يلقى جملة واحدة وليس سيلا جارفا يحمل الجماهير حملا إليه.

هذه الفكرة الإصلاحية التي تجعله منسجِما مع قناعاته، مُطمَئِنًّا في صراعاته الفكرية التي خاضها، ولذلك لم يجد مشكلة في التعامل مع كل الأطياف ذات الطابع الديني أو السياسي التي نشطت في زمنه؛ سواء مع رفقائه كالعقبي الذي كان تكوينه حجازيا، أو مع أبي اليقظان الذي كان تكوينه إباضيا بل قد كانوا من أشد معاوينه وقد تفهم الأسباب التاريخية التي دفعتها للتمسك بمذهبها الفقهي، أو حتى مع بعض المنتسبين للطرقية، والتي سعى إلى تذكيرها بأهمية الجوانب الروحية وإبعادها عن الإغراق في الشكلية والإذعان المطلق للفرد، كما ذكَّرها من خلال مجالسه التي لم تنقطع إلى وظيفتها-التي تخلت عنها-في إحياء النفوس لا قَمْعِها، وفي بَركة حركة الحياة ولعنة التَّبَرُّك بالأموات.. لقد رأى في ذلك الجمود عائقا كبيرا عن التحرر الفكري والسياسي، أو حتى مع الأديان التي شاركته الوطن كالمسيحية أو اليهودية على أن تشاركه الوطن ولا تستأثر به أو تركب به الأعناق أو تُغَيِّر بِتَعَسُّفٍ مجرى التاريخ..

وينطلق من ذلك للتذكير بحقوق المسلمين المنهوبة غداة الاستعمار.. وكان انطلاقا من فكرته الإصلاحية يَتَوَجَّهُ للإنسانية جمعاء، يدعو إلى الحرية التي ناضل لأجلها.. إن طبيعة الفكرة الإصلاحية وأهدافها تُبين أن جوهر الفعل الباديسي مُمثَّلا في نشاطه هو شخصيا أو في نشاط ثلّة من العلماء تشاركوا معه في تأسيس جمعية العلماء، يَحْمِلُنا على القول بأنه استهدف المؤسسة الدينية الرسمية آنذاك أو شبه الرسمية، ونعني بها تلك التي كانت مُعَيَّنَةً من طرف النظام الاستعماري أو تلك التي كان يرعاها المستعمر، كبعض الزوايا أو بالأحرى بعض رؤسائها.. كَما أَنَّ ورَشاته الإصلاحية التي استهدفت الوضع العلمي والتعليمي العام في الجزائر؛ لم تُلهِه عن المشاركة في القضية الوطنية الكبرى التي جَسَّدَها المؤتمر الإسلامي الذي عُقد في 1936م.

بل لم يكن متناقضا أبدا؛ حين نادى بالجامعة الإسلامية ضمن رؤية واقعية يكون فيها التضامن الإسلامي مبنيا على نظام عصري واقعي لا يُكَرِّرُ أخطاءَ الماضي.. وإيمانا منه بأن الإصلاح لا يلقى جملة واحدة وليس سيلا جارفا يحمل الجماهير حملا إليه، ولأن الفكرة الصلاحية فكرة تهذيبية تراهن على تغير السلوكيات السَّائدة وتُؤسِّسُ لِقِيَمٍ اجتماعية حيوية وعصرية، فإنه لم يَحرِق المراحل، بل كان عمله ضمن برنامج مُحَيَّنٍ دوما يُراجع فِيه زُملاءه وإخوانه؛ من العلماء المصلحين والفاعلين السياسيين الأقرب إلى فكرة الإصلاح.

بهذا النسق الذي تَنْظِمه فكرة الإصلاح، وبه فقط يُمكِنُنَا مقاربة المُنجَز الباديسي، وبهذا النَّسق نَتَفَهَّم مواقِفَه، ويُصبِح وصفه بازدواجية الخطاب أو مداراة المستعمر تغريدا خارج السرب، ودِعاية مُغرِضة تسعى للنَّيْلِ من تاريخه ومن الأَفكار التي دافع عنها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.