شعار قسم مدونات

إعلام الروهينغا وتحدي الحصار

blogs روهينغيا

أتذكر جيداً اللحظات الأولى لاندلاع المحنة الكبرى لأقلية الروهنغيا في ولاية أراكان غرب ميانمار قبل خمس سنوات، وتحديداً في العاشر من يوليو عام 2012م، حين هاجمت جماعات بوذية متطرفة تدعمها سلطات ميانمار قرى الروهنغيين فقتلوا وأحرقوا ودمروا وفتكوا بالروهنغيين فتكاً عرفه العالم حينها بالصوت والصورة، واعتبره الروهنغيون نكبةً جديدة سُجلت في تاريخهم الدامي والحافل بالمجازر والمحارق والنكبات.

كانت تلكم الجرائم حدثا استثنائياً بكل المقاييس، وكنا مجموعة من الشباب الروهنغيين من ذوي الاهتمام الخاص بالإعلام، فكانت القضية تمثل لنا أكبر تحدٍ إعلامي يمكننا أن نخوض غماره، وخاصة أننا لا نملك الخبرة الكافية في إدارة معركة إعلامية كهذه مع حكومة طاغية قد اتخذت من التكتيم الإعلامي سياسة لمنع أي خبر أو صورة عن الجرائم والانتهاكات الممارسة ضد أقلية معزولة في غرب ميانمار ومحاصرة من كل الجهات، كما أننا لا نملك الأدوات الكافية ولا نملك الأرضية المهيأة ولا الأسلحة الإعلامية الكافية لتولي زمام الأمر، إضافة إلى بُعد المكان الذي شكَّل فاصلاً كبيراً بيننا وبين شعبنا الروهنغي.

 

هذه جملة من التحديات التي كانت تراودنا ونحن نفكر في خوض هذه المعركة، ورغم كل تلك الصعوبات والعوائق إلا أن هذه المجموعة كانت تملك إيماناً راسخاً بأن الإعلام سيستطيع أن يُحدث الفارق ويحرك المياه الراكدة ويدفع بهذه القضية العادلة إلى الأمام ولو خطوة واحدة، وهذا الإيمان العميق بعدالة القضية ووجوب تقديم الممكن دفع الجميع إلى عمل إعلامي محدود وبوسائل ممكنة تنامى مع الأيام وتكثف حتى أصبح يمثل مصدراً لكثير من القنوات والوكالات والمواقع الإخبارية.
 

أخذنا نخطط بجدية لإطلاق وكالة أنباء متخصصة في أخبار الروهنغيا، وهنا برزت الحاجة إلى محررين وكتاب يمتلكون الأدوات والمهارات اللازمة للعمل، لأن العمل الصحفي يتطلب إضافةً إلى المهارات الإعلامية حساً بالقضية ومعرفة بأبعادها

في يونيو عام 2012م أخذت الأخبار تتوالى عن حدوث جرائم إبادة وتطهير عرقي وعمليات قتل عشوائية وتدمير للمنازل والممتلكات، وبدأت الأصوات والاستغاثات تعلو وتصل إلينا من داخل ولاية أراكان عبر وسائل الاتصال وبلغتنا الروهنغية التي نادراً ما يفهمها غير الروهنغي!

 

وكان علينا أن نوصل هذه الأصوات وتلك النداءات إلى العالم بطريقة أو بأخرى، وكانت الصور ومقاطع الفيديو من أصعب ما يمكن أن نحصل عليها، فمعظم الروهنغيين في أراكان يعيشون في أرياف لا تتوفر فيها خدمات الاتصال والإنترنت في الغالب، كما أن حكومة ميانمار فرضت -ولا تزال- حصاراً إعلامياً على بلدات وقرى الروهنغيا في ولاية أراكان يمنعون بموجبه الروهنغيا من حمل الهواتف النقالة وخاصة الهواتف المزودة بالكاميرا، فكانت الصور التي تصلنا شحيحة للغاية وكنا نفرح بالصورة الواحدة كفرحنا بتحقق منجز كبير من المنجزات.

ومع توالي الأحداث وتتابع الأخبار الصوتية التي تردنا من داخل أراكان، كنا نعتمد في إخبار المهتمين والإعلاميين بها عبر رسائل الجوال النصية فلا نملك آنذاك أي موقع إخباري فضلاً عما دونها من وسائل الإعلام، وكنا ننشر بعض تلك الأخبار على منتدى ثقافي اجتماعي كنا قد أسسناه سابقاً للتواصل الثقافي والمعرفي بين أبناء الجالية البرماوية في السعودية وبعض الدول التي يوجد بها روهنغيين يتحدثون العربية ويتواصلون بها، وقد حولنا قسماً من هذا المنتدى على الفور إلى ما يشبه الموقع الإخباري وكنا نحدِّث ذلك القسم بالأخبار الساخنة على مدار الساعة، وكنا على اتصال دائم مع القنوات والصحف والإذاعات فور وقوع أية هجمات أو أحداث جديدة، ولكن للأسف لم تكن لدينا أية مواد نستطيع أن نزود بها تلك الوسائل الإعلامية التي كانت تطالبنا على الدوام، فلا أخبار محررة، ولا صور من موقع الحدث، ولا فيديوهات يمكن أن تكون مادة إعلامية تستفيد منها القنوات والإعلام المرئي، وكان أمامنا تحدٍ كبير في كسر كل هذه الحواجز والقفز فوق كل هذه الأسوار ليعرف العالم ما يدور داخل السجن الكبير أراكان .

وبُعيد الأزمة بقليل، بدأت تراودنا فكرة تأسيس وكالة خاصة للأنباء نستطيع من خلالها توفير المواد الإخبارية بسرعة لوسائل الإعلام، ونزود بها وكالات الأنباء والقنوات والصحف والإذاعات وخاصة أن معرفتنا باللغة الروهنغية وقدرتنا على ترجمة ما يردنا من داخل أراكان أصبح من الأمور الواجبة علينا، ولدينا بحمد الله من العلم والدراية والمهارة -على قلتها- ما يمكن أن يحول هذا العمل البسيط إلى عمل كبير ضخم نستطيع من خلاله تحريك دوائر التأثير وإحداث هزة إعلامية وسط هذا الحصار، فبدأنا بجلسات تشاورية مع بعض المهتمين وأخذنا نخطط بجدية لإطلاق وكالة أنباء متخصصة في أخبار الروهنغيا، وهنا برزت الحاجة إلى محررين وكتاب يمتلكون الأدوات والمهارات اللازمة للعمل، لأن العمل الصحفي يتطلب إضافةً إلى المهارات الإعلامية حساً بالقضية ومعرفة بأبعادها.
 

قصة الروهنغيا مع الحصار الإعلامي الخانق والتكتيم الشديد الذي تمارسه حكومة ميانمار لإخفاء الحقائق عن العالم لا تزال قائمة حتى اللحظة ولا تزال المعركة مستمرة ولا يزال الحصار الإعلامي مفروضاً على قضيتنا

كنا ثلاثة نجيد التحرير وأخذنا نحرر الأخبار ونترجمها من الروهنغية إلى العربية ثم انضاف معنا آخرون، وبدأ الأولون يدربون الآخرين حتى وضعنا الخطوة الأولى وبدأنا نخطط لأقسام الموقع الالكتروني وما تحتاجه التقنية من دعم وبرمجة ونحو ذلك، وبعد عدة شهور من العمل المستمر انطلقت "وكالة أنباء أراكان" بشكل شبه مؤسسي وبدأنا نحرر الأخبار وننشرها ونتواصل مع الوكالات العالمية والمواقع الإخبارية والقنوات العالمية ونزودها بأخبارنا، وما كان يميز تلك الانطلاقة روح الفداء والتضحية التي كانت حاضرة لدى الشباب الإعلاميين الذين أسهموا في هذه الانطلاقة الكبرى لقضية باتت لأكثر من سبعين عاماً دون أن يكون لها وسيلة إعلامية متخصصة تنقل مآسيها وجراحاتها.

وبعد انطلاقتنا وجدنا ترحيباً وتشجيعاً من جميع المهتمين بقضية الروهنغيا وخاصة من وسائل الإعلام التي كانت تنتظر من يزودها بأخبار الروهنغيا، وبحمد الله خلال فترة وجيزة عقدت الوكالة شراكات إعلامية كبرى مع عدد من الوكالات والمواقع والقنوات ووقعت وثائق شراكة إخبارية مع عدد من القنوات والوكالات، وحازت الوكالة على ثناء عدد كبير من الإعلاميين والمهتمين بقضايا حقوق الإنسان وغدت مصدراً موثوقاً لأخبار الروهنغيا، وهذا العمل ما هو إلا نموذج بسيط في قضية من أكبر قضايا انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، ولا تزال الجهود الإعلامية ضئيلة متواضعة إذا ما قارناها بحجم المأساة التي يصطلي بنارها شعب كامل قتّل وشُرّد وسلبت حقوقه.

هذه قصة الروهنغيا مع الحصار الإعلامي الخانق والتكتيم الشديد الذي تمارسه حكومة ميانمار لإخفاء الحقائق عن العالم، ولا تزال الأزمة قائمة حتى اللحظة ولا تزال المعركة مستمرة ولا يزال الحصار الإعلامي مفروضاً على قضيتنا، والسؤال: من يقف معنا وفي خندقنا من أجل فك هذا الحصار؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.