شعار قسم مدونات

وحدك يا أبي فارسي

blogs الأب

عندما نبلغُ من العمر عتيه، تنضج مشاعرنا، وتتوسع مدارك أفكارنا، فلم نَعُد نبكي على ضياع دُميتنا الخشبية، أو على ذاك الثقب الذي أصاب طائرتنا الورقية.. لم تعد ربطة الشَعْرِ تؤلمنا كما في طفولتنا، حتى وإن شُدَّ وثاقها أكثر، ولم نَعُد مُرغَمينَ على أَن نُغلقَ أزرار القميصِ كُلها، ليكون هندامنا أكثر رتابة.. ولوحُ الشوكولاتة لا، لم يَعُد يُغرينا، والعشرة قروش هذه العُملة ذات اللون الفضي اللامع التي خَلَبَتْ عقولَ كل من ضَمها، لم تَعد كنزُنا الدَفين، ولم يعد يُخيلُ لنا بأنها مصباحُ علاء الدين.. أصبحنا نَخِطُ حُروفنا على السطور كما يَحلوا لنا، نُلَملِمُ شَملها فَنَرُصُها، أو نُباعِدُ بينها كَفراق ينتقلُ من سطرٍ إلى آخر، غير آبهين بفاصلةٍ أو نقطةٍ، فلا قلم آخر سَيُصَحِحُ لنا ويجبرُنا على إعادةِ نسخِ ما كتبناهُ في كراريسِنا من جديد.. 

واحدٌ وعشرون خريفاً من السنون عَلَمْتَني يا أبتي فيها ما لم يُعلمني أحدٌ سواك.. كنتُ تلميذةً بين يديكَ، أغرفُ من نَهْلِ علمك وخُلقِك، أُبحِرُ وسطَ أفكاركَ وحياكَةِ كلماتكَ من باطنِ لبك، وتقودني رياحُك إلى حيثُ غزارة معجمك اللغوي، على الرغمِ من كونكَ لستَ شاعراً أو أديباً، ألبستني طَوقَ حِكمَتِكَ في تسيير الأمور، وارتجالكَ في المواقف رغم ضراوة بعضها، وجهتني إلى مقطوعةِ الحياة لأعزِفَ لحنها وفق طموحاتي، والكثير.. الكثير… 

فلا ألف كتابٍ يمكنهُ أنْ يحوي بينَ دَفَتيهِ ما عَلَمْتني إياهُ.. حُجرة القلب التي دَخلتها يا أبتي، وفاضت بعاطفتكَ وحنانك، وباللين الذي زَرَعَها وُروداً مِنَ الحُبِّ والطموح، لا فارساً غيركُ يستطيعُ أن يُزَعزِعَ كَيانها، أو أن يستولي على عرشِ حُكمها.. تقولُ العجفاءُ بنتُ عَلقمة السعدي: "كل فتاةٍ بأبيها مُعجبة" لكنني أيقنتُ حقاً أنَ كل فتاةٍ بأبيها مُتيمة، كلٌ منا تعيشٌ مع أبيها قصة حُب ولكن بطريقةٍ وعلى شاكلةٍ تختلفُ عَمّن سواها، ذاك الحُب الذي أوجدهُ الله بين الأب وابنته، حُبٌ يُعلمنا فِيهِ فَنَّ الحياة، حُبٌ يختَزِنُ مُكابدة السقم وقساوة الواقع، بمسحةٍ على الرأسِ وبابتسامة ملئ الشدقِ تتبعُها دعوةٌ صادقةٌ من الأعماق، حُبٌ يَبُثُ في رئتنا الحياة، ببساطة يستطيع الأب أن يزرعَ فينا حب الأشياء بلا خوف.. 
 

كثيرةٌ هي قصص العشق والهُيام التي تتجلى في واقعنا، وقليلٌ هُم الفرسان الذين يبقون حتى النهاية، دُونَ أن تبدلهم الحياة أو تغير نهجهم.. تستوقفني كثيراً فكرة العشق بحدِ ذاتها، كيف للقلب بأن يُتَيَمَ بفارسٍ غير أبيه!!

ويقالُ أيضاً بأن الإنسان عندما يُقعُ في الحُبِّ، تبهرهُ سحرُ الكلمات، ويتشكلُ لقلبه موسيقاهُ الخاصة، وترويهِ جَمالُ النغمات التي تتخذُ من كينونَتِهِ ملجأً، وتَعودُ مُخيلتهُ خاوية من كل شيء إلا مِنْ صورةِ المحبوب الراسخة في دَهاليزِ الذاكرة، يَقُولُ باولو كويلو: "لا تقل شيئاً، إننا نحب لأننا نحب، لا يوجد سبباً آخر لكي نُحب". 

فكثيرةٌ هي قصص العشق والهُيام التي تتجلى في واقعنا، وقليلٌ هُم الفرسان الذين يبقون حتى النهاية، دُونَ أن تبدلهم الحياة أو تغير نهجهم..  تستوقفني كثيراً فكرة العشق بحدِ ذاتها، كيف للقلب بأن يُتَيَمَ بفارسٍ غير أبيه!!  هل سيستوطن فارس آخر حُجرةً أخرى من حُجراتِ القلب؟ كيف؟ وحجرات القلب الأربعة ستكونُ كعَضُدٍ واحد! أي سَتُتَيم بفارسٍ واحد، أيعقل بأن يكونَ فارساً على طرازِ فارسي (أبي)، أفعالهُ تتحدثُ عن رجولته، وعشقُ أوصافهِ تنوبُ عن لينه، وإن غابَ في دهاليز انشغاله على هذا الكوكب يبقى حُبهُ جَلي لا يُوصف.. أم أن الحُجرة ستتسع لفارسين؟! 

تَتَجانفُ إلى أروقةِ مُخيلتي في هذه اللحظات عبارة " الأرواح جنودٌ مُجندة " فما قصص الحُبِّ التي نسمع عنها، ويقع فيها أصدقاؤنا وأقاربنا ومن نُصادفهم في حياتنا، إلا لأن جنودَ الأرواح التقتْ وتآلفتْ، بالرغمِ من أنها تحملُ بينَ طياتها فرساناً غير آبائهم.. تستحضرني الروايات وما ترويهِ من حكايا واقعية في ثناياها، وما يَتواتر معها من عَبق التضحيات، وما يجتاحُها من مشاعر وأحاسيسَ مرهفةٍ تأسرُ جوارحنا، تحت مُسمى الحُبْ، ذاك الحُبْ الحقيقي الذي أصبح عملةً نادرةً بعض الشيء ليتواجدَ في واقعنا.. كالهُيام الذي اختزلَ قلب ليلى بقيس، وقلب بثينة بجميل، وقلب عفراء بعروة، وغيرهم الكثير…

 

بالحب أكتبُ لَكَ أبتي، وأبحثُ عن كلماتٍ تنعَتُكَ لأرتلَ بها خِصالك وصفاتكَ الجمة، ولكن أرجوك اعذرني فأبجدية الحروف لن تنصفني

كذلك كان أبطالها فرساناً ولكن من نوعٍ آخر، ففرسان الروايات يتشابهون مع فارسي ( أبي ) بحجم التضحيات التي يبذلها، وبتخليه عن الكثير لأجلنا، وبحبه لنا دون مقابل، وبشعور الطمأنينة الذي يلفنا من كل صوبٍ بمجردِ سماعِ سيمفونيّة خطوات قدميه تقترب من أعتاب المنزل، فهو سفينةُ نجاتنا ومرساةُ أمنِنا وسلامنا.. يقول الدكتور أيمن العتوم : " بالحُبّ تدورُ الشمسُ في الأفلاك وتسيرُ النجومُ والكواكبُ في المسارات، لولا الحُبْ لغيرّت الشمسُ دورتها، ولضلّت النُجومُ والكواكبُ دروبها، ظلَّ الحُبُّ الهادي لكل المخلوقات وغرسهُ الله فيها جميعاً ليملأها بالحياة". 

وبالحب أكتبُ لَكَ أبتي، وأبحثُ عن كلماتٍ تنعَتُكَ لأرتلَ بها خِصالك وصفاتكَ الجمة، ولكن أرجوك اعذرني فأبجدية الحروف لن تنصفني، ويبقى السؤال يَتَجانفُ مُخيلتي كيف للقدر بأن ينسابَ إلى ساقيّةَ فارسٍ آخر !!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.