شعار قسم مدونات

يوم كتابة قدري

blogs - girls protest

لم أتردد يوماً بأن أعطي كل ما أملك، لقد وددت لو أستنشق أبخار البحار على أن أستنشق رياحاً تتردد كل يومٍ على نافذة المنزل الصغير. لست أُنثى عادية أعلم هذا ولطالما وددت أن أرقص على لحن حزين بسمفونية قديمة رقصات بلهاء، لأنني لا أستطيع الرقص على جياد الخيل كما يفعلنَ بنات جيلي…

أنا تلك التي لا تملك سوى العظام لمقاومة الكلاب، التي لا تملك سوى الكلام لتبقى صامتة، حاولت كثيراً أن أستيقظ كل صباح وأشرب فنجان القهوة العربية على نافذة قديمة تتردد إليها الطيور كل صباح وأن أنطرب بنغماتٍ فيروزية مصاحبةٍ للمزاج الجيد.. لكنني لا أستطع هذا، لا أستطع ارتداء الزيّ الرسمي والذهاب للعمل أو قيادة مركبة تتحرك بالطاقة الكلثومية..

أريد أن أعود للمخبأ المغطى بقطراتِ الدم والحب، لولا الخجل لعدتُ طفلةً صغيرة تتلاهث في فتات المنازل.. لولا الحياء لقاومتُ في صفوف الجنود المخفية… أعلم أن الحياة ليست بهذا السوء وأن كل ما أريده لا يريده قدري، أعلم أنه يوم كتابة قدري مزقتُ الصحف الجيدة ولم يتبقَ منها سوى المفتتة وأعلم جيداً أن القدر لطالما كان لصالحي..

لا أندم على فقداني لجسدي أو لشعري أو لحاسة التذوق، لأعضائي التي بقيت على أجهزة مخيفة تصدر أصوات تذكرني بصوت الصدمات الكهربائية..

لا أعترض على حكم من وضع الأنفاس في ضلوعي ولا أعترض على قوله رفعت الأقلام وجفت الصحف، فالجفاف قد أطغى على بستاني الذابل، أنا فقد وددت لو لوِّن قليلاً بماء عذب أعاد له الحياة، لو استطعت تقبل تجاعيد أبي وجبين أمي للمرة الأخيرة، لست فتاة صالحة للكسر ومهما حاولوا لن يجدَو نفعاً فقد كونتُ من حديد لا يصهرهُ بطشٌ أو قوة..

يوم أسري كنت بأجمل حُلتي، كنت سعيدة جداً بنفسي وحاولت التقاط بعض الصور الفوتوغرافية لي لأنني لا ألتقطها بالعادة، ولم أظن أنه ستلتقط لي صورة فوتوغرافية في بيت العذاب، إنه بارد.. باردٌ جداً وضيق كالقبر المدفونِ به إحدى العصافير الذاهبة للجنة.. بالكاد استطيع التقاط أنفاسي وأخذ شهيق كامل، لا إضاءة أو نوافذ لا حبٍ أو حياة..

أنا فقط في مكانٍ أقاوم به الموت وأحاول أن أظهره له أنني أقوى منه، أضرب عن الطعام لساعاتٍ فقد أسرتُ دون تهمة، قبل هذا كان شعري طويل مخملي واليوم بالكاد أستطيع لمسه فقد تحول إلى أشواكٍ مرتبطة بشعيرات رقيقة جداً، سأبقى مضربة عن الطعام فإما الحرية أو الشهادة لا ثالث لهما..

تعلمون أنني فتاة لعزيمتها سبعةُ أرواح لا تفنى ولا تستحدث، كلما حاولتم إرغامي على تناول الموت والذلِّ أشربتكم إياه مع الحليب، لا تحاولو معي كثيراً فإن كان الطعام الشهي نتيجة عذابٍ أبدي فالجوع أرحم.. وها أنا اليوم وبعد إضراب استمر لأشهر طويلة أنساني نكهة الطعام وأفقدني حاسة التذوق وركَّ جسدي هزيلاً..

يوم أسري كنت بأجمل حُلتي، كنت سعيدة جداً بنفسي وحاولت التقاط بعض الصور الفوتوغرافية لي لأنني لا ألتقطها بالعادة، ولم أظن أنه ستلتقط لي صورة فوتوغرافية في بيت العذاب.

استنشق عبير الحرية من جديد، أتناول فطوري مع والداي اللذان بكيا فوق جسدي الهزيل الذي لم يعد يوماً إلى ما كان عليه، وما فائدة الجسد دون الروح…كتبَ قدري أن أعتقل في ميلادي التاسع عشر وأن التمس الهواء من جديد في العشرين.. يا لهذا القدر الغريب.. لا أندم على فقداني لجسدي أو لشعري أو لحاسة التذوق، لأعضائي التي بقيت على أجهزة مخيفة تصدر أصوات تذكرني بصوت الصدمات الكهربائية..

ولكنني كنت سأندم طوال العمر لو قبلتُ الجلوس في بركة لا تحتوي سوى الأسماك السامة.. وها أنا اليوم ألازم الشمس بعيناي وألتمس الحرية بأنفاسي وأعاود رسم طريقي من جديد.. عله وعسى يكن أرحم وأقصر من الذي مضى وعلي لا أضيعه هذه المرة بطياتٍ كانت تبدو لي سفينة .. يا أنا يا أنتم أما هم فلا مكان لهم في جبيني أو طريقي الذي رسمته بكبريائي وفخري هذه المرة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.