شعار قسم مدونات

قيود من ورق

مدونات - قيود

واحدة من مشاكلنا الأساسية اليوم أننا صرنا سواءً كمجتمع أو أفراد نعيش بلا هدف أو غاية.. فلا خطوات واضحة، ولا مسار نسلُكه.. ننقاد في هذه الحياة حيث يريد آخرون، ويحكُمُنا الخوف والخُذلان، ويبني الإحباط فينا بيوته الواهية. نعرف مشاكلنا وكثيراً ما نعرف حلولها، لكننا لا نخطو تجاه إصلاحها، وإن خطونا فإننا نترك مِقْوَد العربة للإحباط عند أقرب مطبّ، لنرتطم بعدها تكراراً.. ومع الأيام نتناسى تلك المشاكل، ونُحدِّث أنفسنا أننا لا نستطيع كسر شوكتها رَغْم هوانها، ونمارس دور الضحية، وتصير هي العادة السائدة.
 

لا ننتبه إلى التطور السّلبي الذي تطوّرناه والصفات السيئة التي اكتسبناها، وعندما نلْحَظُها نبحث عن الأعذار والتبريرات وأننا لا نستطيع تغييرها. نُدمّر أنفسنا من الدَّاخل قبل أن يفعل الآخرون، ونخْذُل أنفسنا قبل أن يخذُلنا الآخرون. نترُك الفرصة والمجال للجلّاد كي يجلدنا، وللّص كي يسرقنا، وللكاذب كي يكذب علينا ويخدعنا.. ثمّ نتحسر على واقعنا، متناسين أنّ "الأشرار لا ينتصرون إلا عندما يتْرُك الأخيار ساحة المعركة لهم، أو عندما يتواجدون في الساحة دون حراكٍ وإعداد".
 

صرنا كالعملاق الضخم الذي ترك الأقزام الصغار يعبثُون به وبمنزله، بعد أن كبَّلُوه بحبال لا تعدو كونها مثل الورق، الذي يستطيع تمزيقه لو تحرك ولو قليلاً، لكنه بدلاً عن ذلك يتباكى ويُردّد: "إنّ البعوضة تُدْمي مُقلة الأسد"… الصحيح أيها الأسد أن البعوضة قد تدمي مقلتك لكنها لا تستطيع غير ذلك، وهي أيضاً لا تستطيع أن تصنع ما تصنعه أنت.
 

متاز بقصر النَّظر واللَّحظية، وحب التأجيل والتسويف، والمَيْل للراحة وعدم الإجهاد أو التفكير، بل نكتفي بالاتكاء على عصا اليأس التي أكلتها دابة الأرض فنخِرُّ ساقطين.

نُخْطئ ثم نَكْذِب على أنفسنا وعلى غيرنا لنبرر هذا الخطأ، ونستهجن من يريد إرشادنا وتوجيهنا لتجاوز تلك الكذبة وإصلاح أنفسنا. نجْبُن في اللحظات التي نحتاج فيها للشجاعة، وأحياناً في لحظات لا تحتاج حتى للشجاعة. نخاف من بضع كلمات لا تزن حجم الهواء الذي انتقلت عبره، ونخاف من بضع أفعال لا تقاس حتى بمقياس، لكننا نضعها على مقياس ريختر ونُصنِّفُها ضمن الزلازل والكوارث البيئية.
 

نُهوِّل العقبات الطبيعية التي تعترض طريقنا وطريق أيّ إنسان، كعدم مقدرتنا على حفظ شيء، أو الرسوب في مادة، أو المشاكل الزوجية، أو الخذلان من أحدهم وغيرها.. بل أحياناً نبحث عن العقبات لكي نتعلق بها كعذر ومبرر. أعرف العشرات ممن مرُّوا بمثل هذه الأحداث، كنا نُحدِّثُهم أن ينهضوا ويستعدُّوا للانطلاق لكنهم يتباكون ويرفضون، وتمضي الأيام وتنفرج الأمور، وعندما أجلس إليهم اليوم وأُذكِّرُهم بما قالوا وبما فعلوا، يضحكون ويقولون: كم كنَّا حمقى وأغبياء !

نُصَفِّق للُّعبة الجميلة دون أن نُساهم فيها، ونظل في صفّ المتفرجين والمشاهدين.. وفجأةً يَتَملَّكُنا الحماس ونقرّر النزول للميدان والمشاركة، ثم نفشل ونكتشف أنّ التَّصفيق وحدهُ ليس كافياً، ونُصاب بالإحباط، وننسى أنَّه كان علينا التدرب والإعداد لهذا النزول. نسكت عن أخطاء المجتمع ولا نسعى لإصلاحها، بحجة أننا لا نريد افتعال مشاكل أو اكتساب عداوات، أو لأن المخطئ ينتمي إلينا، ولا ندري أننا بذلك نشجع على الخطأ والإهمال.
 

نتمادى في السكوت عن الخطأ، ويصل بنا الأمر أحياناً أن نمتدح الخطأ ونصفق له لأنه يخدم مصالحنا وأنانيَّتنا، ونعترض على الصحيح لأنه ينتزعها منَّا. الأدهى من ذلك أن يصبح الخطأ الذي امتعضنا منه في لحظةٍ ما هو الصحيح، والصحيح الذي صفقنا له يوماً ما هو الخطأ ! ننساق وراء أفكار ساذجة، ونعلم علم اليقين أنها لا تمثلنا في كل جوانبنا، لكن لأن الجميع يفعلها ولا نريد أن نكون نحن الشواذ، تجدنا بالمواقع الأمامية.

نُمجِّد ونحترم التافهين والمائعين وأصحاب الأموال والسلطة مهما فعلوا، ونجد لهم العذر الواهي ونثور لأجلهم، كما نثور للكثير من التوافه التي ارتبطنا بها في حياتنا. نحتقر أحدهم لجنسه أو لونه الذي قد يكون هو نفس لوننا، نحتقره لأنه ليس من تلك الفئة أو الطبقة أو الجماعة التي ننتمي إليها أو على الأقل التي نحترمها ونمجدها.

نتناقض كثيرا في تصرفاتنا تناقضاً جوهرياً، وبدون أدنى وعي أو إدراك لما نقوم به.. وعلى سبيل المثال تجد ملصقات جدارية قد شوهت الحوائط، مكتوب فيها "النظافة من الإيمان"، والجهة التي ألصقتها تسمي نفسها "إسلامية"! ومن ألصقها يشعر أنه قدم للأمَّة خدمة جليلة! ملصقات لمدارس وأحزاب ومرشحين وإعلانات وغيرها، مهما اختلفت فقد اتفقت أن التناقض عنوانها، والتشويه شعارها. هذا التناقض امتدَّ ليملأ جدران أخرى.. جدران "الفيسبوك" و"تويتر".
 

طلب منك أن تكون ذلك الإنسان الذي يبحث عن الكمال المشروع، يُخطئ ويُصلح خطأه، يسقط ويبكي ثم ينهض. الإنسان الذي يمتلك عقله ولا يُمْتَلك، الذي يستند على عصا المبادئ والأخلاق الصحيحة.

نستجيب لنفس الحدث والمشهد بعدة صور، تختلف استجاباتنا وتتنافض حسب الأشخاص والألوان والأشكال، وكمثال بسيط بعض الشباب يعاكس فتاة ما، وبمجرد إخباره أن تلك الفتاة "أخت فلان"، يشعر حينها بالغباء والأسف والندم، هو إذاً لا يعترض على فعله المشين في حدّ ذاته، لكنه يعترض على أشياء أخرى.
 

نمتاز بقصر النَّظر واللَّحظية، وحب التأجيل والتسويف، والمَيْل للراحة وعدم الإجهاد أو التفكير، بل نكتفي بالاتكاء على عصا اليأس التي أكلتها دابة الأرض فنخِرُّ ساقطين. نتجاهل جميع الأمثلة الإيجابية التي أمامنا، ونصفُها بالصعبة التي يستحيل تكرارُها، بل وننساها مع الأيام ولا نتذكرها إلا من باب التندُّر والسَّمر، ونتمسك بقشة الفشل ونعضّ عليها بالنواجذ كل يوم وكل ساعة.
 

يا صديق.. لا أطلب منك أن تكون ذلك الإنسان المتكامل، المعصوم، المثالي.. لكن أطلب منك أن تنزع عنك ثوب الانهزام والانكسار، أن تنزع عنك قيود الورق التي صنعتها لذاتك ونسجتها على مقاسك. أطلب منك أن تكون ذلك الإنسان الذي يبحث عن الكمال المشروع، يُخطئ ويُصلح خطأه، يسقط ويبكي ثم ينهض. الإنسان الذي يمتلك عقله ولا يُمْتَلك، الذي يستند على عصا المبادئ والأخلاق الصحيحة، الذي يؤمن بإنسانيتنا جميعاً دون تفرقة، وينتمي للإنسان قبل أن ينتمي للون أو شكل أو جماعة.
 

يا صديق.. الطريق نحو ذلك لن تكون مفروشة بالورود خالية من الشوك، فقد حُفت جنة الرحمن بالمكاره وحفت النار بالشهوات .ثِق أنك قادر وتستطيع.. وفي طريق الحياة تَذكَّر أن لديك مطلق الحرية للتأثُّر والتأثير سلباً أو إيجاباً، و"أنت" من تختار..  أنْ تكون حرًّا طليقاً.. أو أن تكون عبداً يختار قيوده الورقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.