شعار قسم مدونات

ثورة أم حرب أهليّة.. حلب تحدّثت مثالا

blogs حلب

كان يوليو عام 2012 صيفاً ناريّاً حقّاً في سوريا وحاملاً معه المفاجآت في كلٍ من دمشق وحلب، الحاضرتان هما ثقل سوريا الاقتصادي والسياسي كما نعلم، دخل الجيش الحر آنذاك لمدينة حلب قادماً من الريف الشمالي وأُعطيت القيادة للقائد الشهيد عبد القادر الصالح الذي حاز على إجماع وثقة من جميع المقاتلين ودخلوا حينها من حي صلاح الدين، أفقر أحياء حلب ويقع بجنوبها الغربي وأكثرها شعبية وكثافة سكانية، وتم الانتشار بعدها في باقي الأحياء، ولكنهم لم يضعوا بمخيلتهم أدنى فكرة حول وقوفهم عند حي معين بل كانوا متمترسين بتحريرهم لآخر شبر محتل من المدينة.

 

نحو عشرة أيام تم تحرير أكثر من نصف أحياء المدينة الواقعة شرقاً وجنوباً، أضخمها مساكن هنانو والحيدرية وطريق الباب والشعار والصاخور والكلاسة وبستان القصر وجميعها تُصنَّف على أنها أحياء شعبية ومهملة من الحكومة خلال فترة سنواته العجاف كما مناطق عديدة لا تُحصى، أبدى النظام وميليشياته حينها مقاومة ليست بالعنيفة جداً وانسحبت وتمترست في أحياءٍ اختارها هو، وتُعتبر من الأحياء الغنية والغنية نوعاً ما، كالشهباء والمارتيني والفرقان والسبيل والجميلية والحمدانية والموكامبو.

في هذا الوضع الحساس جداً طفى على السطح مصطلحا حلب الشرقية وحلب الغربية، لا نذكر أن سمعنا ذلك على الصعيد العربي إلا في بيروت، لكن التركيبة السياسية لحلب غير متشابهة مع ما حصل في بيروت فضلاً عن الأطراف المتصارعة هنا وهناك، فهنا نجد قوات معارضة شبه محلية وفي المقابل قوات نظامية بإسنادٍ جوي وكتائب موالية على الأرض.

تم قبل الثورة تجاهل وتهميش السواد الأعظم من حلب من قِبل الحكومة المركزية في دمشق، وذلك لاعتبارات سياسية ناجمة عن الولاء المعلن والحقد الشخصي ذا الصبغة الطائفية كما حصل لحماة وإدلب والشرق السوري

ربما نجد مقاربة طفيفة عندما حصلت اشتباكات مع القوات الكردية المتمركزة في حيي الأشرفية والشيخ مقصود وإطلال الأخير من جبل السيدة على منفذ الكاستيلو الوحيد والذي اُعتبر شريان حلب المحررة نحو ريفها الشمالي، ومساندتها فيما بعد لقوات النظام في اقتحام نحو ستة أحياء شمال شرق حلب مطلع شهر ديسمبر 2016، عند الاستناد لهذين المصطلحين واستنباط المعاني منهما سنجد أنها تتقاطع مع مصطلح الحرب الأهلية، وهذا ما يستميت الإعلام الغربي على ذكره ليل نهار، متناسياً أنها بدأت ثورة سلمية في منتصف مارس 2011 وكان ذلك قبل أن يجرها النظام لحرب مفتوحة الأطر ومبرراً لنفسه ما يقوم به من عنف مفرط وشلالات دماء بحق الثوار السلميين بدايةً.

أما عن التركيبة الديموغرافية وحتى الأيدولوجية منها والمشهد السوداوي البحت، فقد تم قبل الثورة تجاهل وتهميش السواد الأعظم من حلب من قِبل الحكومة المركزية في دمشق، وذلك لاعتبارات سياسية ناجمة عن الولاء المعلن والحقد الشخصي ذا الصبغة الطائفية كما حصل لحماة وإدلب والشرق السوري من الأطراف التي انتزعت الدولة السورية وبشكل أو بآخر فقد ساهم أعداء الثورة بتعميق الفجوة بين مختلف تشكيلات الشعب السوري وذلك لإلباسها لبوس المخطئ.

إن إدانة استهداف المدنيين هو أقل ما يمكن أن يفعله من في الطرف الآخر ولكنه لا يكفي بالبتات، عند التصريح بذلك وإن وُجد ومن ثَمَّ إعماء البصر وغض الطرف فيمكن وصفه بالسقوط الأخلاقي المدوي

تتعارض سرديات الأطراف المتنازعة حول المسارات والمآلات للوصول النهائي، وما تعانيه من قصف وتدمير ممنهج وتهجير مبارك من قطبي العالم الشرقي والغربي، وعلى الرغم مما يحصل والذي أشبه بيوم القيامة كما نتصوره في مخيلتنا إلا أنه مازال يوجد من يشكك في فاجعة الواقعة السورية ومأساتها العظيمة، وهناك الكثير من غير السوريين وحتى العرب يشاركونهم انعدام الحس هذا، ولكن ظلم ذوي القربى أشدّ مرارة وطعنة رهيبة في صميم القلب المتعب، مئات من الشهداء أسبوعيّا بآلاف من براميل وصواريخ وقذائف الحقد التي تنهال عليهم ومئات آلاف من ساكنيها الذين هجروها بالتغريبة السورية للقرن الواحد والعشرين.

في هذا التوصيف الجزئي فإن إدانة استهداف المدنيين هو أقل ما يمكن أن يفعله من في الطرف الآخر ولكنه لا يكفي بالبتات، عند التصريح بذلك وإن وُجد ومن ثَمَّ إعماء البصر وغض الطرف فيمكن وصفه بالسقوط الأخلاقي المدوي، ويكتمل مشهد التقسيم الديموغرافي في المدينة بما رأيناه من مشاهد فرح ورقص وتهليل لما تُسمّى زوراً وبهتاناً "انتصارات الجيش العربي السوري" وتحمل هذه الصور شتماً جمّاً للقيم والأخلاق الإنسانية منها على الأقل.

 

إن افترضنا أنها مظهر من مظاهر مقاومة الموت والتأكيد على استمرارية الحياة لكنها تصح نسبيّاً في موقع الحروب الأهلية، لا في بلد يعيش ثورة ضد نظام فاجر، ولن تنفع معهم تبريراتهم وحججهم الواهية ولا خطاباتهم الجوفاء وما هذا التهليل إلا تعميقاً للهوة الصارخة حول الانقسام الديموغرافي والاجتماعي والطبقي الذي حل بالمجتمع هناك بعد أن كان فقط اقتصادياً، ومن قام به هم ثلة سعت في خرابها وتدميرها، للأسف يبدو أنها نجحت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.