شعار قسم مدونات

عدن..تاريخ من الإقصاء والوصاية

blogs - اليمن
عدن المدينة الوحيدة في العالم التي تشُعر حين تدخُلها أنك تعرفها منذ زمن حتى لو كانت أول مرة تزورها، مدينة شبه جزيرة، حولها موقعها إلى نقطة مهمة في طريق التجارة العالمية قبل الميلاد، فتعاقبت عليها حضارات مختلفة وممالك عديدة، مثل مملكة أوسان وسبأ وحمير وأكسوم. وفي العهد الإسلامي خضعت لدول عديدة، فتعرضت لحملة برتغالية في القرن الخامس عشر الميلادي خلال حكم الأيوبيين، وخضعت لحكم العثمانيين، وأيضا للاحتلال البريطاني في القرن التاسع عشر.
 
إقصاء الإقصاءات
بإيجاز المعضلة التاريخية التي تعانى منها الحكومات والسلطات في عدن عبر تاريخها من قَبل الاحتلال البريطاني وحتى اليوم هو الإقصاء الذي يمارسه من يحكمها ضد الاخرين سواء كانوا شركاء أو رفاق، فالاحتلال البريطاني ما كان ليستمر طوال 139عام لو لا اختلافات وإقصاءات سلاطينها لبعض وتعاونهم بعد ذل مع حاكم عدن ضد بعضهم لمصلحة الاحتلال في الاستمرار أطول فترة ممكنة.

إن عواقب استفحال الصرعات وفرض الوصايا كبديل عن الخطاب الوطني سيجر عدن واليمن إلى صراع طويل ستدفن معه كل القضايا الوطنية وعلى رأسها القضية الجنوبية.

وبالمرور على تاريخ عدن فقد كانت أول مشكلاتها بعد ثورة 14اكتوبر هي إقصاء شركاء النضال في الثورة ضد الاستعمار، بين الجبهة القومية والوطنية ومن ثم صراع الرفاق بين الحزب الحاكم نفسة. استمرت الحالة بعد الوحدة بأحداث 94م وما حدث بعدها من مظالم أسهم ذلك في زيادة الشعور بالإقصاء للعسكريين الذين رأوا جيشهم السابق يتعرض للتصفية أو للإدماج القسري، ويسلم لقيادة مناطقية محدودة نعمت بالثراء والامتيازات، ليظهر الحراك الحقوقي كرد فعلا طبيعي عن الاختلال الحاصل في عدن وقضيتها العادلة.

لكن سرعان ما تحول الحراك الحقوقي إلى حراك انفصالي، يقصي كل فصيل الاخر، ويتكر نفس المشهد اليوم في عدن فالأحداث والخلافات الحاصلة في عدن امر طبيعي و نتيجة منطقية لإقصاء شركاء المقاومة والتحالف والرغبة بالوصاية لصالح طرف وجهة ومنطقة على حساب الاخر.

بداية الوصاية، السفينة تغرق بداية
السفينة تغرق، بهذه العبارة احتلت بريطانيا عدن وبدأ معه تقسيم جنوب الجزيرة العربية عن اليمن ومعه بدأ تاريخ الوصاية والإقصاء والألم والصراعات، حين زارها ضابط البحرية البريطانية "هينس" لم يستطع أن يخبئ اندهاشه بما رآه من روعة، وبسرعة المكتشف قام بتواصل سريعا بحاكم التاج البريطاني في الهند وأخبره كما في نص الرسالة، إن هذا المرفأ العظيم يمتلك من المقدرات والإمكانات ما لا يمتلكه أي ميناء آخر في الجزيرة.

في عام1837م مثل غرق السفينة "داريا دولت" الفرصة التي جاءت من السماء، أبرق هنس إلى التاج الملكي في بومباي وبصوت مرتفع السفينة تغرق، شارحا تفاصيل ما حدث وتفاصيل ما فكر القيام به. وكان يوم 19يناير 1839م، إعلان بتاريخ مغاير لعدن، فلقد تحولت عدن الى محمية بريطانية تابعه للملكية التي لا تغيب عنها الشمس، ومن يومها غابت عدن عن الجزيرة العربية.

إقصاءات شركاء النضال ووصاية الرفاق 
انتهى الاحتلال البريطاني، بثورة 14اكتوبر لتبدأ صراعات أخرى لكن هذه المرة بين شركاء النضال ضد الاستعمار، صراعات اقصاء وتفرد بالحكم والوصاية على جنوب اليمن. شهدت الدولة المتصارعة خلافات وانقسامات سياسية علت فيها وتيرة الأعمال العسكرية والعدائية بين جميع أطرافها، ولعبت فيها الدبلوماسية أدورًا أخرى، إلا أن غياب التنازلات زادت من حدة الصراع.

دخلت حينها الدولة الحديثة في جنوب اليمن بعد التحرر في صراعات دامية بين تياري الثورة الجبهة القومية وجبهة التحرير، حُسمت لصالح الأولى، حيث عملت حكومة بريطانيا على تسلميها مقاليد الحكم وتهميش جبهة التحرير.

السفينة تغرق، بهذه العبارة احتلت بريطانيا عدن وبدأ معه تقسيم جنوب الجزيرة العربية عن اليمن ومعه بدأ تاريخ الوصاية والإقصاء والألم والصراعات، حين زارها ضابط البحرية البريطانية "هينس".

أدارت الجبهة القومية البلاد بفكر يساري، لكن سرعان ما دبَّ الصراع داخلها وأطيح بأول رئيس للبلاد قحطان الشعبي في 22 يونيو1969، بقيادة سالم ربيع سالمين، بعد ذلك بسنوات قُتل (سالمين) من قبل الرفاق في 26 يونيو 1978، وهو العام ذاته الذي أعلن فيه عن قيام الحزب الاشتراكي اليمني.

لم ينته الصراع بين الرفاق على السلطة حتى توج بأحداث 13 يناير 1986 الدموية، والتي قُتل فيها الآلف من قيادة الحزب وكوادره، في مقدمتهم عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر، في حين غادر علي ناصر وزمرته وعبدربه الرئيس الحالي من الجنوب نازحا مع كافة العناصر الموالية له إلى الشمال الذي استضافهم وقدم لهم التسهيلات. تولى بعدها البيض الرئاسة حتى 22مايو 1990 يوم أعلن وحدة الشطرين ليصبح نائبا للرئيس في دولة الاندماج والوحدة، ولتبدأ مرحلة جديد من التوتر وعودة الصراع.
 
أحداث 1994م وصاية القوة
نتيجة للصراعات السياسية، التي تمثلت من خلال المسيرات والمظاهرات والاجتماعات والمؤتمرات، التي بدأت في 9 أكتوبر1991م وكان آخرها في 12 مايو1992م، لم يندلع الصراع المسلح في ذلك الوقت دفعة واحدة، وإنما ظلت درجة التصعيد، تتزايد بمعدلات متسارعة، وبدأت عملية التصعيد تأخذ شكلاً شديد الخطورة.

خلال هذا الاحداث بداءة المواجهات العسكرية بين طرفي الجيش المنقسم وقتها لتصل الأوضاع الى أعلان القادة الجنوبيين الانفصال وإعادة جمهورية اليمن الديمقراطية في 21 مايو 1994 اي بعد بدء المعارك بشهر تقريبا، وهو ما يقوله المحللين بعد ذلك، ان دعوة الانفصال كانت نتيجة وليست سبب للحرب، ولكن لم يعترف المجتمع الدولي بالدولة المعلنة.

الأمم المتحدة في خضم ذلك سعت لوقف الحرب وأصدر مجلس الأمن قرارين الأول 924 في يونيو والثاني 931 في يونيو 1994م دعَ لوقف إطلاق النار فوراً، لكن لم يتم تطبيق القرارين. انتهت الاحداث باستيلاء القوات الحكومية على عدن في يوليو 1994م ليتوجه اغلب قيادات الجنوب الى منافي اختيارية في الخليج، ولتبدأ وصاية القوة على عدن.

الحراك الجنوبي 2007م وصاية الاقصاء
يعود الصراع والحشد في الشرع الى عدن بمسميات مختلفة وبمظاهرات ودعم من فصائل وقوى مختلفة خرج مجموعة من أبناء عدن والجنوب لمطالبة الحكومة بالإصلاحات الاقتصادية في 2004م ويتشكل الحراك 2007م، وتتصاعد وتيرة الاحتجاج في الجنوب وسط مطالبات فصائل من الحراك الجنوبي بالاستقلال، وتسلسلت الاحداث وفي 2011م الثورة الشبابية شارك ابناء عدن والجنوب بفصائل ومسميات مختلفة، وتم الاعتذار للجنوب على احداث 1994م في مؤتمر الحوار الوطني في صنعاء2014م.

الوصاية الجديدة

لم ينته الصراع بين الرفاق على السلطة حتى توج بأحداث 13 يناير 1986 الدموية، والتي قُتل فيها آلآلف من قيادات الحزب وكوادره، في مقدمتهم عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر.

وفي 2015 كانت عدن مع حرب جديدة لم تخرُج منها الا بتدخل التحالف العربي ولتُسلم الى وصاية جديدة لا تزال معالمها تتشكل في الأفق بين دول التحالف والأطراف الداعمة لها وبين القوى المحلية داخل عدن والمناطق الجنوبية بشكل عام، لتبدأ صراعات جديدة بين رفاق الشرعية وأطراف التحالف لسيطرة وتقاسم النفوذ في عدن.

إن عواقب استفحال الصرعات وفرض الوصايا كبديل عن الخطاب الوطني سيجر عدن واليمن إلى صراع طويل ستدفن معه كل القضايا الوطنية وعلى رأسها القضية الجنوبية. وكذلك فإن السماح بتمادي الخطاب المناطقي واحتكار القضية لطرف واقصاء الاخرين شركاء المقاومة والنضال سيوسع مفهوم الاقصاء المناطقي وفقا لرؤاه الضيقة، وليس وفقا للاعتبار الوطني ومعايير القبول بالدولة المدنية وقواعد العملية السياسية، فإنه سيؤدي إلى جعل اليمن عامة والجنوب خاصة ساحة لصراع المختلفين الأضداد، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى تواري المشاريع الوطنية التي تنشد الدولة المدنية سواء اليمنية أو الجنوبية على حد سواء.

هذه عدن، المدينة المجزأة التي تجعلك غير واحد ضلت حلماً للغزاة والاقصاء والهاربين والثوار ايضاً، فكل شيء في عدن مركب ومتنوع ومتداخل أكثر من حضارة وأكثر من ذوق واحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.