شعار قسم مدونات

هكذا علمني أبي.. جدّي كان حمَّالًا

blogs حمال

عندما فتحت عيني على الدنيا كان وضع أسرتنا المادي يتراوح بين الجيد والممتاز، وحتى في تلك الفترة حين كانت تضيق الأمور المادية بأبي لم نكن نشعر بذلك ونحن صغار، مما يعني أنني لم أذق طعم الفقر حقيقة، ولكن ذلك لم يكن حال أبي – رحمه الله -، ولذلك فقد كان حريصًا على تعليمي درسًا عنوانه: (العمل شرف، والفقر ليس عيبًا).

الفقر في حقيقته مشكلة، جاء الإسلام ليحاربها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه، فيقول في دعائه (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ)، وكان يدعو فيقول الله (اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ)، ومن دعائه أيضًا: (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ)، ولكن ذلك لا يعني أن الفقر عيب يجب على من أصيب به أن يخجل منه. 

وكعادته في التربية فقد كان أبي يعتمد على القصص والحكايات لإيصال الفكرة، وقد رسّخ فيّ وفي إخوتي هذه الفكرة بشكل ممتاز، ولله الحمد.

كان مما حدثني به أبي أن جدّه الذي ولد سن 1890 تقريبًا، وتوفي سنة 1974، كان يعمل (حمّالًا) في القدس، في سوق الخضار، وكان جدّه هذا قد وُلد في الخليل ثم سكن القدس ككثير من أهل مدينة الخليل في فترة الثلاثينيات والأربعينيات عندما استنفر مفتي القدس الحاج أمين الحسيني أهل الخليل لإنقاذ القدس من الهجمة الاستيطانية التي كانت تتعرض لها، وكان جدي هذا قد نشأ يتيمًا فقيرًا، تولت شقيقته تربيته، وفي القدس حيث كان جدي يسكن هو وأولاده كان يعمل حمّالًا، هكذا حدثني أبي، ثم قال لي: يا بني، ليس هناك ما يدعو إلى الخجل في أن يعمل الرجل في أي عمل شريف يدرّ عليه دخلًا بالحلال، فالعمل ليس عيبًا، وإنما العيب هو أكل الحرام، والاتكال على الناس، لقد كان جدك فقيرًا أيامها، ولكنه كان رجلاً له هيبته واحترامه، وقد ترك أثرًا في من بعده، وسمعةً طيبة، أريدك أن تعلم ذلك لتفخر بجدّك الذي كان حريصًا على أكل ماله بالحلال رغم فقره.
 

حدثني أبي أنه أثناء تجارته أفلس مرة حتى كان لا يجد ما ينفقه، وكان لديه دكان، إذ كان يتاجر في لوازم الأحذية، وكان دكانه فارغًا ليس فيه أي بضاعة، فاستدان من صديق له خمسة آلاف دينار، واشترى بها بضاعة ليتاجر بها، ثم فتح الله عليه وباع ما اشتراه، وسدد ديونه

ثم حدثني أبي كذلك عن والده الذي كان يعمل وهو يافع في ثلاثينيات القرن الماضي سائق (كارّة)، وهي عربة يجرها حمار، ينقل بها الخضروات بين الخليل والقدس، ولاحقًا صار جدي يعمل سائقًا لسيارة شحن تنقل البضائع بين فلسطين وبقية البلدان العربية، كالعراق ولبنان، وتطورت أموره بعدها فصار له مكتب نقليات للشاحنات، وكذلك كان جدي من وجهاء العائلة، ولا زلنا – نحن أحفاده – نسمع الثناء على سيرته العطرة وسمعته الطيبة ممن بقي ممن يعرفونه.

أما عن نفسه، فقد حدثني والدي أنه أفلس في حياته ثلاث مرات، فقد عمل في بداية حياته مساعدًا لسائق شاحنة، وقد ذكرتُ أن جدي كان يعمل سائقًا، وكان السائقون أيامها يحتاجون ليكون برفقتهم مساعد لهم في سفرياتهم الطويلة، لينوب عنهم في سياقة الشاحنة إذا تعبوا، ويساعدهم إذا حصل فيها عطل، فعمل والدي مساعدًا لسائق شاحنة، ثم بعدها تعلم (صناعة الأحذية) فعمل أجيرًا في مشغل أحذية، وافتتح لاحقًا مشغله الخاص، وبعدها دخل مجال تجارة الجملة لبيع (لوازم صناعة الأحذية للمشاغل)، وأنشأ قبل وفاته مصنعًا لصناعة (النعل)، وخلال مسيرته هذه، والتي شهدنا – نحن أبناءه – منها المرحلة التي كان فيها مُتَّسِعَ الرزق، حَسَنَ الحال، أفلس ثلاث مرات، حتى أنه أخبرني أنه بعد الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية سنة 1967، وكان عمره حينها 22 عامًا، وكان متزوجًا ومعه ولد واحد هو أنا، ضاقت به الحال فكان يذهب إلى القرى القريبة من مدينة الخليل ويشتري من أهلها (بيض الدجاج) ويبيعه على بسطة في الخليل.

وفي كل مرة كان يكبو فيها لم يكن يستسلم، فقد كان ينهض من كبوته، وساعده على ذلك بعد توفيق الله حسن معاملته للناس.

وقد حدثني أنه ضاقت به الأحوال في إحدى الفترات، وكان له مشغل أحذية في منطقة (الحسبة القديمة) في الخليل، وكانت البضاعة عنده مصنّعة جاهزة وليس هناك من يشتري من التجار، وفي أحد الأيام دخل عنده رجل وسأله عن ثمن (حذاء) كان على الرفّ لم يتمّ تجهيزه نهائيّا بعد، فظنّ الوالد أن الرجل يريد شراء زوج أحذية لنفسه، فأعطاه سعرًا أعلى من (سعر الجملة) الذي يعرض مصنوعاته به، على أمل أن يشتري الرجل فيحصل الوالد على بعض النقود ولو كانت قليلة ليوفر لمنزلنا ما يحتاجه، ففوجئ بأن الرجل الذي أعجبه السعر كان تاجر جملة، ولم يكن يريد حذاءً لنفسه، بل كان يريد شراء كمية من ذلك (الموديل)، وكانت هذه الصفقة نقطة انطلاقة للوالد من تلك الكبوة. 

وحدثني أنه أثناء تجارته أفلس مرة حتى كان لا يجد ما ينفقه، وكان لديه دكان، إذ كان يتاجر في لوازم الأحذية، وكان دكانه فارغًا ليس فيه أي بضاعة، فاستدان من صديق له خمسة آلاف دينار، واشترى بها بضاعة ليتاجر بها، ثم فتح الله عليه وباع ما اشتراه، وسدد ديونه، وانطلق انطلاقة جديدة.

كل هذه القصص التي كان يحدثني بها كانت تهدف إلى تعزيز الدرس الذي أراد تعليمي إياه، فالفقر ليس عيبًا، والعمل شرفٌ لا يخجل المرء منه ما دام حلالًا.

كان هذا عن الدروس، أما في التطبيق العملي، فقد شهدت منه أنه كان يتعاطف مع الذين يعملون بجِدٍّ وتضيق بهم الأحوال، لأنه مرّ بمثل تجاربهم، ففي عملي معه في تجارة لوازم الأحذية أذكر أنه كان يأتينا بعض الزبائن ليشتروا من بضاعتنا، وتكون عليهم ديون سابقة متراكمة لم يدفعوها، فيأمرني – رحمه الله – بإعطائهم ما طلبوه، وبالطبع فلم أكن أعترض أمام الزبون، ولكن بعدما يغادر كنت أسأله: يا حج، أليس لنا على هذا الشخص مبلغٌ كبير متراكم لم يسدده؟ وأنت تعلم أن ثمن ما أخذه اليوم سيتم إضافته للدين السابق، فلمَ نستمر في إعطائه البضاعة؟
 

نعم لقد كان جدُّ أبي حمالًا، وكان جدّي يعمل سائق عربة يجرها حمار، وعمل أبي بائعًا للبيض على بسطة، ثم تحسنت أحوالهم جميعًا، ومع ذلك فقد كانوا يفخرون بما كانوا يعملونه، لأن العمل الحلال شرفٌ، والفقر ليس عيبًا

حينها حدثني بقصة إفلاسه ثلاث مرات، وقال لي: يا بني، أنا أعلم أن هذا لن يسدد ثمن ما أخذ، ولكنه رجل طيب ضاقت به الدنيا، وهو سيصنّع البضاعة التي اشتراها منّا ويبيعها لينفق على أولاده، لا ليسدد لنا ديوننا، ومع ذلك فأنا أعطيه لأني أتخيل نفسي عندما كانت تضيق بي الدنيا، ولا أريد لهم أن يعانوا مثل ما عانيت، فما ذنب أبناء هذا الرجل؟! يا بني، اعتبرها صدقة خفية.

وأنا أشهد الله تعالى أن عددًا من هؤلاء قد تحسنت أحوالهم لاحقًا، وكثير منهم ما زالوا يذكرون للوالد – رحمه الله – ذلك الموقف، فألقى بعضهم فيترحم على والدي ويقول لي: ما زلت أذكر وقوفه معي، وتزويده إياي بالبضاعة عندما ضاقت بي الحال وكان التجار يرفضون التعامل معي.

نعم لقد كان جدُّ أبي حمالًا، وكان جدّي يعمل سائق عربة يجرها حمار، وعمل أبي بائعًا للبيض على بسطة، ثم تحسنت أحوالهم جميعًا، ومع ذلك فقد كانوا يفخرون بما كانوا يعملونه، لأن العمل الحلال شرفٌ، والفقر ليس عيبًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.