قرأت لخولة حمدي رواية: “في قلبي أنثى عبرية”، وأنا أظن أنها رواية جيدة أدبيا وقصصيا، بعد الصدى الطيب الذي سمعته من بعض القراء على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنني وجدتها رواية ممتازة أدبيا وتاريخيا ودينيا. وجدتني أبكي لبكاء الشخصيات وأتألم لآلامهم، وأضحك لضحكهم وأفرح لفرحهم، وأضغط على نفسي كي أتوقف عن القراءة وأنا أرى الوقت متأخرا بالليل، كنت أترك الأحداث مرغمة وأنا في الحقيقة أحس بنفسي افترقت عن الشخصيات وكأنني اضطررت إلى فراق أفراد من أسرتي.

قرأت عدة روايات وتأثرت بها، لكنها لم تبلغ مقدار تأثري بالشخصيات التي أبدعت خولة في تقديمها وجعلها تتحدث وكأنك تستمع لها لا تقرأ، والأهم من ذلك أنني صدقت كل حرف وأيقنت أن الشخصيات حقيقية حتى وإن بدا من أفعالهم ومبادئهم أنهم ينتمون لعالم غير الذي نعيش فيه، لكنني دائما ما آمنت أن تزايد الشر إنما هو أكبر دليل على وجود خير كثير في مكان ما من هذا العالم وإن بدا أن عدد الأشرار يتعدى بكثير عدد الأخيار، لكن الوزن واحد، ويبدو الاختلاف فقط في العدد.

فتاة مسلمة تتربى في كنف عائلة يهودية، ثم يهودية تنقذ مسلمين ينتميان لحركة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقس مسيحي يعالج أحدهما بإتقان ومهارة ويخفي أمرهما، هكذا تبدأ الرواية التي تحمل في طياتها العديد من الأحداث والمفاجآت بين حكاية ريما الفتاة المسلمة التي نشأت في جنوب تونس وكتب لها أن تستشهد في جنوب لبنان بعد أن سافرت إليه؛ لا تلوي على شيء، مهاجرة بدينها مقطوعة من شجرة، تعبد ربا كريما وتثق في قدرته، وبين ندى الفتاة اليهودية التي قضت فترة وجيزة من طفولتها في جنوب تونس مع أبيها المسلم ثم هربت بها والدتها هي وأختها الكبرى إلى جنوب لبنان حيث تربتا على اليهودية اعتقادا وتطبيقا، وهي لا تدري أن تلك الفتاة التي ترعرعت في وطنها القديم ستكون سببا في إسلامها بمشاركة أحمد الشاب المقاوم الذي رأى فيها سلامة الفطرة والجهل بدين الحق، وقرر أن يعرفها على الإسلام عله يستطيع أن يكون سببا في إنقاذها.

ندى وأحمد وريما قد يكون ثلاثتهم الشخصيات الرئيسة للرواية، لكن أبطالها كل الشخصيات بما فيهم جاكوب وسارا وسماح وحسان والخالة سعاد وميشال وجورج.. ستكتشف وأنت تقرأ أن كل شخصية فريدة من نوعها ومتميزة عن الآخرين، لكنها ستعلمك شيئا في هذه الحياة، لذلك لن تستطيع محوها من ذاكرتك مهما حاولت.

أحمد يمثل الرجل المسلم الذي فهم دينه فهما صحيحا ويحاول الحياة على خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم، ذو أخلاق نبيلة وأهداف سامية في تحرير الأراضي المحتلة من إسرائيل وترجيح كفة المسلمين وإنقاذ نفس طيبة بالفطرة من النار بتعريفها بدين الحق عن طريق المناظرة والإقناع لا القوة والقمع..

ندى كانت منذ البداية فتاة متميزة بذكائها وفطنتها وكذلك بصفاء قلبها ونقاء أخلاقها. شاءت الأقدار أن تتشابه ظروفها مع ظروف ريما، وإن بدت في البداية طرقهما متباعدة جدا، فبعد أن رحلت ريما بدينها من جنوب تونس إلى جنوب لبنان، رحلت ندى بدينها الجديد من جنوب لبنان إلى جنوب تونس. ريما الطفلة أكثر منها المراهقة التي تميزت بتطبيقها لما تدرسه من علوم الدين في حياتها حتى وإن جعلها الأمر تخسر أعز أحبابها، لكنها آثرت حق الله على حق الناس ولم تأبه.

علمتني ريما البراءة والنقاء والصبر والجلد في عز البلاء، كرهت نفسي وأنا أقرأ قصتها، عدم تحملي لمشاكل تبدو تافهة مقارنة بما عانته هي مع صغر سنها، لكنها لم تأبه إلى كل ذلك. فبعد أن كرهت ترحيلها من وطنها الذي اعتادته أصبحت ترى في الوطن الجديد شيئا كبيرا شدها لتبقى هناك، لتدرك أمنيتها وهي لا تعرف لا الوقت ولا المكان الذي ستستشهد فيهما، لكنها فقط تمنت أن تستشهد في سبيل الله حين انتبهت أن هذا البلد الذي جاءت إليه لا يزال جنوبه يعاني من الاحتلال الصهيوني.

علمني أحمد أن الحياة التي نحياها كي نأكل ونشرب ونستقر ونتوالد إنما هي حياة رتيبة خالية من المتعة، متعة المقاومة والدفاع عن الوطن والدين، تدفعك هذه الشخصية إلى الخجل من فرط ما تحسه فيها من مسؤولية تجاه الدين والوطن. فتتساءل مع نفسك: ماذا فعلت لهذا الدين أستطيع أن أقابل به نبي الرحمة يوم القيامة دون أن أخجل؟

علمتني سماح أن الخلق الحسن مع المسلمين وغير المسلمين، وحياء الفتاة يكسبها جمالا دون الحاجة إلى رؤيتها. وأن الفتاة الصالحة خير سند لأخيها وزوجها وأول مشجع له في كل عمل فيه مصلحة الدين والوطن، حتى وإن احتاجت في قرارة نفسها إلى الإحساس بالاستقرار والطمأنينة بعيدا عن حياة ملؤها المفاجآت والخوف من طريق قد لا يعود منها من بدأها سالما، لكنها ما تلبت أن تحفر لمثل هذه الأفكار حفرة عميقة وتقدم عليها الصبر والتشجيع على التضحية في سبيل الأرض.

علمني حسان أن الصداقة لا ثمن لها، وأن الصديق الوفي الشهم أولى من الحب العذري إن تعارضت المصالح. علمتني الخالة سعاد احترام رأي الابن واختياره خصوصا إذا ظهرت فطنته مع صغر سنه فاحترام رأيه سيسعده ويريحه وسيحافظ على العلاقة المتينة بين الأسرة وإن اختلفنا في الرأي فلا ضير، احترام وجهات النظر وإعطاء الفرصة للأبناء لإثبات حسن اختيارهم وزاوية تفكيرهم المختلفة في بعض القضايا.

علمني ميشال وجورج التسامح والعطاء واحترام عقيدة الآخر. كانا رمزا للمسيحي المتسامح الذي لا يتوانى عن تقديم يد المساعدة للآخر مهما كانت عقيدته بل فقط لأنه إنسان يحتاج المساعدة وأي سبب هو أعظم من الإنسانية لنجدة الآخرين دون الاهتمام بألوانهم وأشكالهم وعقائدهم؟

تعلمت من تانيا وجاكوب أصول التربية التي تقوم على تنمية مواهب الأطفال وتوجيههم واحترام عقولهم، تربية راقية لا يمكن أن تنتج إلا طفلين ذكيين قادرين على اختيار طريقهما في الحياة.
تانيا كانت سببا في نشأة فتاة ذكية فطنت سريعا إلى طريق النجاة رغم صغر سنها، واحترام جاكوب لابنته وخوفه من مداهمتها وهي تصلي في الخفاء وتوبيخها حتى لا تهتز صورته في عيني ابنته شفع له كثيرا وجعل قلبه يذعن للحق مع الوقت.

شخصيات سلسة تجد لها في قلبك ألفة عجيبة فتترحل معها بين جنوب لبنان وجنوب تونس دون أن تكل أو تمل، والأغرب أنها قد تبقى في عقلك وقلبك مدة طويلة، أطول مما كنت تتخيل.