شعار قسم مدونات

عفوًا لم ينفد رصيدي بعد..

blogs رجل فى شارع

سُئل أحد الفلاسفة الأوروبيين عن العالم المثالي في نظره فقال: "العالم المثالي حيث يكون الطباخ فرنسيًا، والميكانيكي ألمانيًا، والشرطي بريطانيًا، والعاشق إيطاليًا ويدير كل شيء رجل سويسري.. وفي المقابل يضطرب العالم ويُحتل حين يكون الشرطي ألمانيًا، والطباخ إنجليزيًا، والميكانيكي فرنسيًا، والعاشق سويسريًا، ويدير كل شيء رجل إيطالي".

ربما الأمر لا يتعدَّى كونه مجرد مقولة لواحدٍ من أهل الغرب، ولكن ماذا عنّا نحن أهل الشرق؟! أتُرانا ننكر عليه قولَه قولًا وفعلًا؟! أم نسبح فيما وراء هذا المفهوم! والذي يبدو للوهلة الأولى "طُرفة" تحمل بين طيَّاتها "حكمة مُجرِّب"…؟!

تعيش مجتمعاتنا العربية على الثانية، تقتات على مثل هذه المفاهيم والمعاني، صراحةً أو ضمنًا لا يهم. لا عليك سوى أن تجلس على أريكتك مرتديًا معطفك وأنت تحتسي مشروبك الساخن رشفةً برشفة، ستجد مهمتك سهلةً بسيطة بل وممتعة أيضًا -هكذا يقولون- فقط أطلق الأحكام على هذا وذاك. اجمع الأشياء في نمطٍ واحد ثم اطبع عليه التوقيع الخاص بك. هنا وفقط أستطيع أن أُرحِّب بك أن "أهلًا وسهلًا بك في كوكب القولبة".

القولبة كما عرَّفها البعض هي مرض من الأمراض الاجتماعية، حيث يميل فيه الإنسان إلى اختزال المعلومات والمُدركات، ووضع الناس، الأفكار والأحداث في قوالب عامة جامدة، بحيث يمثَل رأيًا مُبسطًا أو موقفًا عاطفيَّا، أو حكمًا عاجلًا غير مدروس، يتسم بالجمود وعدم التغيير.
 

وسائل التواصل الاجتماعيّ، أقوال السابقين، الموضة، وساحات المثقفين! أصبحوا -وغيرهم- أدوات صارخة لتُمرّر إلينا أفكارًا ثابتة، في قوالب لا تتغير، لا تقبل الثورة أو التفكير، مُحرَّم على من يصرعها -في حياته- ترحيب المجتمع له بعيشٍ كريم.

حديثًا، حيث وسائل التكنولوجيا عامةً ووسائل التواصل الاجتماعي خاصةً، نجد أن حديث الفتيات في الغالب يدور عن حبهن مثلًا للشوكولاتة والورود، القهوة ورائحة المطر، وهذا غيضٌ من فيض. على كلَ أخبرتني إحداهن يومًا ما أنها تمقت القهوة أيما مقت لمرارتها، والتي ليس لديها القدرة على احتمالها. صادفت لها كتابات في حسابٍ من حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي تمتدح فيها القهوة، وتُفرد لها من الأشعار ما يُطرب النفس ويؤنس وحشة القلب، أبديت اعجابي عن طريق زر "اللايك" بكتاباتها تلك، وجدتها تراسلني على الرسائل الخاصة قائلةً: "ليس من المعقول أن كلهن يحببن القهوة وأنا أكرهها ظنًّا مني أن طعمها مُرّ، هن يكتبن عنها فلماذا لا أكتب عنها مثلما يكتبن! لابد أن العيب في وليس في القهوة". المسكينة صارت تتجرّع فنجانًا من القهوة يوميًا؛ ظنًا منها أنها بذلك تُعالج نفسها من مرضها العضال.

قديمًا، قالوا -في مجتمعاتنا- "الأقارب عقارب" ولكنهم أيضًا قالوا "أنا وابن عمي على الغريب" و" الخال والد"، فهل يا تُرى أيهم الحقيقة المُخبأة! هل كل الأقارب سيئون إلى هذه الدرجة؟! أم أن الأقارب جيدون جدًّا لدرجة الاستعانة بهم على نوائب الدهر؟!

كانت إحداهن دائمًا تعلن عن نفورها الدائم من قطعة ثيابٍ ما تراها مقززة -على حد تعبيرها- ولديها أسبابها -التي قد تكون مقنعة للكثيرين- وتتساءل عن شعور من يرتديْنها ويخرجن بها، اليوم هي ترتدي تلك القطعة دون أي شعور مقزز ينتابها؛ لأنها أخيرًا وصلت إلى ضالتها -من وجهة نظرها- واكتشفت أن العيب فيها لا في قطعة الثياب تلك، قطعة الثياب تمثل "الموضة وآخر صيحاتها" وكلهن يرتدينها فلِمَ لا؟! أمن المعقول أن كلهن خاطئات وهي الوحيدة المحقة؟!

في إحدى ساحات المثقفين التي شهدت نقاشًا حادًّا حول القول الفصل في أمر النقاب واللحية أهما دليلا نقاء وصلاح صاحبيهما أبد الآبدين؟! أم دليلا نفوس خبيثة تتوارى خلف الرمز ليكون الحصن المنيع؟!

 

وسائل التواصل الاجتماعيّ، أقوال السابقين، الموضة، وساحات المثقفين! أصبحوا -وغيرهم- أدوات صارخة لتُمرّر إلينا أفكارًا ثابتة، في قوالب لا تتغير، لا تقبل الثورة أو التفكير، مُحرَّم على من يصرعها -في حياته- ترحيب المجتمع له بعيشٍ كريم..

ليس من المفترض أن تُعشق القهوة من الجميع أو العكس، فليس كل ما تُقرّه مواقع التواصل الاجتماعيّ دستورًا صحيحًا، أقوال السابقين قد تصيب وقد تخطيء، فليس كل الأقارب عقارب عند الجميع، ولا كلهم طيبون أيضًا بالكُليّة، الزيّ الذي تتخذينه منهاجًا وأسلوبًا ولا ترتضين غيره -طالما أنه يوافق مواصفات الزي الشرعي- لا تتبني غيره طالما لا يوافق قناعتك الشخصية لأجل " الموضة" فقط، فالموضة ليست دومًا عنوان الأناقة؛ فهي في بعض الأحيان قد تجعل منكِ مسخًا لا شكل له أو لون. أصحاب اللحى والمنتقبات أو المختمرات حتى ليسوا ملائكة ولا هم شياطين أيضًا، فليس كل ما يخرج من ساحات المثقفين قرآنًا يجب التصديق عليه.
 

فلتتحرر من تلك "القولبة" واصنع "تجربتك الخاصة" واصرخ ملء أفلاك الفضاء "عفوًا، رصيدي من الأفكار والمشاعر خاصتي لم ينفد بعد"!

قولبة الأمور وجعلها تأخذ اتجاهًا واحدًا لا سبيل غيره، هي طريقة فعَّالة لتجنب صراعات التفكير والبحث عن الحقائق، وهو بمثابة خطوات ناجحة نحو عقل ضامر، كبيتٍ خرب لا حياة فيه، وما لهذا خُلِقنا واللهِ! الله -عز وجل- خلق لنا عقولاً لتنتج -من التحليل والتدقيق في أمور الحياة- أفكارًا، قلوبًا تستشعر عظمة الخالق فتكمل بذلك المهمة ويتكامل دورها مع دور العقل ليبني بشرًا سويًّا يُعمِّر في الأرض.

فلتجعل نفسك دائمًا في تحدٍّ واضحٍ وصريح لكل ما ينافي ذلك الدور، فأنت إنسان له ماله وعليه ما عليه، تمامًا كهؤلاء الذين يخططون حياتك ويرسمون أفكارك وأنت "محلك سر" لا تقاوم ولا تنتج، بل فقط تنفذ أفكارهم، وتستهلك منتجهم بذلك الكتالوج الذي أعدُّوه خصيصًا لك. فلتتحرر من تلك "القولبة" واصنع "تجربتك الخاصة" واصرخ ملء أفلاك الفضاء "عفوًا، رصيدي من الأفكار والمشاعر خاصتي لم ينفذ بعد"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.