شعار قسم مدونات

طفل روزماري: الشيطان كنظرية سياسية

blogs - فيلم
عام 1968، عُرض فيلم ‏‎طفل روزماري للمخرج البولندي/ اليهودي رومان بولانسكي، ‏والمقتبس عن رواية بالاسم نفسه للروائي إيرا ليفين، نالت شهرة واسعة ومبيعات عالية حين صدرت قبل عام منه، قدّم ‏طفل روزماري نموذجاً جديداً في عالم الرعب والجريمة، يتجاوز أغاثا كريستي أدبياً وألفريد هيتشكيك سينمائياً إضافة ‏إلى تفوقه الفني.‏

عائلة مانسون:
لعلّ الأحداث التراجيدية التي ارتبطت بحياة بولانسكي وهذا الفيلم، أسهمت أكثر في شهرته.‏ بعد عام من عرض طفل روزماري الذي يستلهم قصته من طوائف عبدة الشيطان التي كان صرّح بولانسكي ‏نفسه أنه لا يؤمن بوجودها، هاجمت عصابة (عائلة تشارلز مانسون) بيت بولانسكي وهو مسافر، وقتلت بالسكاكين ‏زوجته الحامل (الممثلة شارون تيت) وبقرت بطنها كما قتلت ضيوفها، وكتبت بدمائهم على باب البيت كلمة ‏‏"خنازير"، وكانت مثلت من قبل دور فتاة تشهد ذات النهاية.‏

جمع تشارلز مانسون (الذي قضى حياته بين دور الرعاية والسجون والشارع) هذه الطائفة الشيطانية المصغرة من ‏المتشردين وجعلها تؤمن أنه هو المسيح الجديد، وأن رسالتها قتل الأغنياء كي تعمّ الحرب وتقترب القيامة فيظهر ‏المسيح الجديد، لم يكن بولانسكي مستهدفاً بنفسه، كان بيته لمنتج زاره مانسون وغنى أمامه سابقاً لكنه رآه بلا موهبة ‏فطرده، ولكن مانسون المطرود عاد بالسكاكين والمسيح الجديد انتقاماً من عالم الأضواء، وستتكرر جرائم عدة قبل ‏اعتقال الطائفة وإجهاض حلم الشيطان.‏

عالم الشقق:
يعتبر طفل روزماري الفيلم الثاني ضمن "ثلاثية الشقق"، وهي ثلاثة أفلام متفاوتة الجودة (سمة عامة لسينما ‏بولانسكي) وغير مترابطة القصة ولكنها متشابهة الموضوع والثيمة، أفلام رعب ضمن المجمعات السكنية يصاب ‏أبطالها بالرعب ويحاطون بالجريمة والشر الغامض.‏

‏يرسم بولانسكي صورة مجتمعاتنا الراهنة كما يراها في عالم الشقة، أشخاص غرباء ووحيدون بحد أدنى من العلاقات، ‏ويسكنون بيوتاً تسكنها ذاكرة آخرين، عالم مغلق من الاغتراب المليء بالعصاب.

الفيلم الأول: ‏‎Repulsion‎‏ عرض في 1965 وأحداثه في لندن، وكتبه بولانسكي نفسه، بطلة الفيلم كارول فتاة ‏مصابة بعصاب نفور من الرجال، وتغزوها الكوابيس والوساوس عن الاغتصاب والرجال الأشرار والعنف الجنسي ‏المتخيل، والذي سيغدو واقعاً دموياً.
الفيلم الثاني: طفل روزماري‏Rosemarys baby ‎‏ وهو موضوع المقال.‏
الفيلم الثالث: ‏The Tenent‏ عرض في 1976م وتدور أحداثه في باريس، يؤدي ‏بولانسكي دور بولندي (فرنسي الجنسي) يذكره المجتمع أنه غريب، يستأجر شقة حاولت مستأجرتها السابقة ‏الانتحار، وتتملكه قصتها وتغزوه الكوابيس والوساوس حول سكان البناية والمستأجرة والأحداث الغرائبية ‏حوله، إلى أن يرمي نفسه منتحراً مثلها في النهاية.‏

مريم الأخرى:
ثمة انتقادات عديدة للأوسكار، عدا توظيفها السياسي وجوائز المجاملات، ولكن إحدى الخطايا الكبرى عدم منح ميا فارو ‏أوسكار أفضل ممثلة عن أدائها المؤثر والمتقن لحد هائل في فيلم طفل روزماري.‏

يبدأ الفيلم مع تهويدة حميمة تحمل حزناً قلقاً وجميلاً تشبه أجواء القصة، زوجان جدد، ممثل يحاول الصعود (غاي) ‏وزوجة تتوق للأمومة (روزماري)، يستأجران شقة عتيقة وأنيقة في بناية توفيت مستأجرتها العجوز قبل أيام وشهدت ‏أحداثاً غرائبية وتاريخاً سحرياً قبلهم، سكنها سحرة معروفون حيناً وأختان كانا يأكلان الأطفال حيناً آخر ووُجد رضيع ‏ميت مرة وجارة انتحرت منذ أيام.‏

يتقرب الجاران العجوزان من الزوجين الجدد، الزوج خاصة، الذي يقتنع فجأة بضرورة الإنجاب، ويأخذ دوراً رئيساً ‏في مسرحية بعد حادث تعرض له الممثل الأول سبب له العمى، وبعد سهرة مع الجارين العجوزين، يصيب الزوجة ‏الدوار، وتحلم بكوابيس وأن كائناً غريباً يغتصبها، حين تصحو تجد على جسدها جروحاً وتكون قد حبلت.‏

تتحسن أحوال الزوج المادية وشهرته، ويتركها أكثر ليسهر مع جيرانه، ويأخذونها لطبيب مشهور، تزورها كوابيس ‏أكثر ويضعف جسدها، ولا نكاد نعرف المسافة الفاصلة بين الحلم والواقع، ويغزوها القلق وشعور بالغموض، تبحث ‏في كتب السحر وتعتقد أن الجارين ساحران، وتلجأ لصديقهم هاتش ليؤكد لها، يُقتل قبل ذلك، ولكن يترك لها كتاباً عن ‏تاريخ السحر يؤكد شكوكها.‏

بعد شهور القلق والخوف والكوابيس والنحول تنجب روزماري طفلها، ولا تراه بعد التخدير، يخبرونها أنه مات وأنها ‏مريضة نفسية بالهلوسات ويجب ألا تتحرك، ولكنها تشعر أنهم كذبوا وأخذوا الطفل، تعتقد أنهم سيقدمونه أضحية ‏للشيطان، وحين تقتحم عليهم بالسكين يكونون في حفل طقوسي حول الطفل، كانوا طائفة شيطانية وينتظرون أن تلد ‏لهم المسيح الجديد، لم يبع الزوج روحه للشيطان كما فعل فاوست وإنما جسد زوجته كذلك، لقد ولدت مريم الأولى ‏المسيح، أما مريم المعاصرة فهي تلد الشيطان.‏

حين تقترب روزماري من طفلها لتراه، ستكتشف أنه مسخ على صورة والده، تصيبها نوبة ذعر وهي تنادي الله بينما ‏يصيح بها الجار مردداً كلمة نيتشة عن "موت الله"، ولكنها لن تلبث أن تهدأ وتقترب من طفلها لتهزه بحميمية ونظرة ‏حب دافئ، كان ابنها، كانت الأمومة أقوى.‏

هذا العالم يمكنه أن يلد شيطانه الخاص ويحبه ويصبح شرط أمنه ورفاهه وثقافته، ولكن لا يمكننا نحن أن نفعل ذلك ‏رغم أننا نلد شياطيننا أيضاً (داعش والأسد وحزب الله…الخ.

تجديد فاوست:
رغم أن السكن المشترك ظاهرة قديمة، إلا أن المجمعات السكنية والبنايات المزدحمة بالشقق تعتبر ظاهرة مرتبطة ‏بالمدينة الحديثة منذ النهضة الصناعية ثم العمرانية التي اضطرت أعداداً أكبر للسكن في مساحات أقل، فأصبح التوسع ‏عمودياً في البناء بالتوازي مع توسع الطبقة الوسطى أفقياً في المجتمع.‏

عالم الشقة صورة خلفية عن مجتمع مدينة العمل المفكك حيث تحل علاقات العمل وصداقات المدينة محل الأسرة، ‏يرسم بولانسكي صورة مجتمعاتنا الراهنة كما يراها في عالم الشقة، أشخاص غرباء ووحيدون بحد أدنى من العلاقات، ‏ويسكنون بيوتاً تسكنها ذاكرة آخرين، عالم مغلق من الاغتراب المليء بالعصاب والوسواس والأحداث الغرائبية ‏والطوائف الشيطانية والاغتصاب والقتل والانتحار.‏

الزوجان الشابان يدخلان عالمهم الجديد في الشقة بقدر قليل ويتلاشى مع الوقت من علاقاتهم الأسرية والاجتماعية ‏السابقة، الزوج الباحث عن نجاح لا يجده إلا بالتحالف مع الشيطان عبر جيرانه من طائفة السحرة وبعد عمى زميله، ‏وتنبني الأسرة نفسها على أساس هذا التحالف، حين يصبح الشيطان سبب الإنجاب، ولا يقف الأمر عند أفراد سحرة، ‏الطبيب المشهور كان من الطائفة، إنها منظومة مجتمعية ممتدة تشكل أمثلة النجاح الاقتصادي والتقدير الرمزي ‏ومرتبطة بالتحالف مع الشيطان.‏

وحين تلد مريم الشيطان، ستلجأ لله وتناديه بينما تواجهها صرخة نيتشه عن "موت الله"، ولكن روزماري (التي تمثل ‏الجانب الروحاني والجمالي والأخلاقي في الفيلم) لن تُعنى بالنقاش اللاهوتي الأخلاقي حول الأمر، بقدر ما ستغلبها ‏الأمومة، وتتقبل ابن الشيطان.. ابنها، وتشرف على تنشئته وتحبه أيضاً، تصالحت الثقافة إذن مع الحضارة في ‏مشروع الشيطان الجديد.‏

طفل روزماري هو طفل عالمنا الراهن، بحروبه وسياساته وأيديولوجياته، منذ ظهور أيديولوجيات التغيير الكبرى مع ‏النازية والفاشية والشيوعية، وصولاً إلى خطابات المحافظين الجدد حول الإسلام والشر وحرب الإرهاب، وحتى ‏صعود اليمين المتطرف الأوروبي مؤخراً في مقابل صعود تنظيمات داعش والقاعدة والحشد الشعبي على الطرف ‏الآخر من المتوسط، وحتى في التفكير العادي بالسياسة وتحقيق المصلحة واكليشيه "انفصال السياسة عن الأخلاق"، ‏حيث يكون جحيم الآخرين في الخارج مقبولاً -أو حتى شرطاً- في سبيل تحقيق الجنة في الداخل، طبعاً مع سيول ‏التبرير والتنظير المنهمر حول كل ذلك.

هذا العالم يمكنه أن يلد شيطانه الخاص ويحبه ويصبح شرط أمنه ورفاهه وثقافته، ولكن لا يمكننا نحن أن نفعل ذلك ‏رغم أننا نلد شياطيننا أيضاً (داعش والأسد وحزب الله…الخ)، نحن شياطيننا تأكلنا أولاً.‏

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.