عائلة مانسون:
لعلّ الأحداث التراجيدية التي ارتبطت بحياة بولانسكي وهذا الفيلم، أسهمت أكثر في شهرته. بعد عام من عرض طفل روزماري الذي يستلهم قصته من طوائف عبدة الشيطان التي كان صرّح بولانسكي نفسه أنه لا يؤمن بوجودها، هاجمت عصابة (عائلة تشارلز مانسون) بيت بولانسكي وهو مسافر، وقتلت بالسكاكين زوجته الحامل (الممثلة شارون تيت) وبقرت بطنها كما قتلت ضيوفها، وكتبت بدمائهم على باب البيت كلمة "خنازير"، وكانت مثلت من قبل دور فتاة تشهد ذات النهاية.
جمع تشارلز مانسون (الذي قضى حياته بين دور الرعاية والسجون والشارع) هذه الطائفة الشيطانية المصغرة من المتشردين وجعلها تؤمن أنه هو المسيح الجديد، وأن رسالتها قتل الأغنياء كي تعمّ الحرب وتقترب القيامة فيظهر المسيح الجديد، لم يكن بولانسكي مستهدفاً بنفسه، كان بيته لمنتج زاره مانسون وغنى أمامه سابقاً لكنه رآه بلا موهبة فطرده، ولكن مانسون المطرود عاد بالسكاكين والمسيح الجديد انتقاماً من عالم الأضواء، وستتكرر جرائم عدة قبل اعتقال الطائفة وإجهاض حلم الشيطان.
عالم الشقق:
يعتبر طفل روزماري الفيلم الثاني ضمن "ثلاثية الشقق"، وهي ثلاثة أفلام متفاوتة الجودة (سمة عامة لسينما بولانسكي) وغير مترابطة القصة ولكنها متشابهة الموضوع والثيمة، أفلام رعب ضمن المجمعات السكنية يصاب أبطالها بالرعب ويحاطون بالجريمة والشر الغامض.
يرسم بولانسكي صورة مجتمعاتنا الراهنة كما يراها في عالم الشقة، أشخاص غرباء ووحيدون بحد أدنى من العلاقات، ويسكنون بيوتاً تسكنها ذاكرة آخرين، عالم مغلق من الاغتراب المليء بالعصاب. |
الفيلم الأول: Repulsion عرض في 1965 وأحداثه في لندن، وكتبه بولانسكي نفسه، بطلة الفيلم كارول فتاة مصابة بعصاب نفور من الرجال، وتغزوها الكوابيس والوساوس عن الاغتصاب والرجال الأشرار والعنف الجنسي المتخيل، والذي سيغدو واقعاً دموياً.
الفيلم الثاني: طفل روزماريRosemarys baby وهو موضوع المقال.
الفيلم الثالث: The Tenent عرض في 1976م وتدور أحداثه في باريس، يؤدي بولانسكي دور بولندي (فرنسي الجنسي) يذكره المجتمع أنه غريب، يستأجر شقة حاولت مستأجرتها السابقة الانتحار، وتتملكه قصتها وتغزوه الكوابيس والوساوس حول سكان البناية والمستأجرة والأحداث الغرائبية حوله، إلى أن يرمي نفسه منتحراً مثلها في النهاية.
مريم الأخرى:
ثمة انتقادات عديدة للأوسكار، عدا توظيفها السياسي وجوائز المجاملات، ولكن إحدى الخطايا الكبرى عدم منح ميا فارو أوسكار أفضل ممثلة عن أدائها المؤثر والمتقن لحد هائل في فيلم طفل روزماري.
يبدأ الفيلم مع تهويدة حميمة تحمل حزناً قلقاً وجميلاً تشبه أجواء القصة، زوجان جدد، ممثل يحاول الصعود (غاي) وزوجة تتوق للأمومة (روزماري)، يستأجران شقة عتيقة وأنيقة في بناية توفيت مستأجرتها العجوز قبل أيام وشهدت أحداثاً غرائبية وتاريخاً سحرياً قبلهم، سكنها سحرة معروفون حيناً وأختان كانا يأكلان الأطفال حيناً آخر ووُجد رضيع ميت مرة وجارة انتحرت منذ أيام.
يتقرب الجاران العجوزان من الزوجين الجدد، الزوج خاصة، الذي يقتنع فجأة بضرورة الإنجاب، ويأخذ دوراً رئيساً في مسرحية بعد حادث تعرض له الممثل الأول سبب له العمى، وبعد سهرة مع الجارين العجوزين، يصيب الزوجة الدوار، وتحلم بكوابيس وأن كائناً غريباً يغتصبها، حين تصحو تجد على جسدها جروحاً وتكون قد حبلت.
تتحسن أحوال الزوج المادية وشهرته، ويتركها أكثر ليسهر مع جيرانه، ويأخذونها لطبيب مشهور، تزورها كوابيس أكثر ويضعف جسدها، ولا نكاد نعرف المسافة الفاصلة بين الحلم والواقع، ويغزوها القلق وشعور بالغموض، تبحث في كتب السحر وتعتقد أن الجارين ساحران، وتلجأ لصديقهم هاتش ليؤكد لها، يُقتل قبل ذلك، ولكن يترك لها كتاباً عن تاريخ السحر يؤكد شكوكها.
بعد شهور القلق والخوف والكوابيس والنحول تنجب روزماري طفلها، ولا تراه بعد التخدير، يخبرونها أنه مات وأنها مريضة نفسية بالهلوسات ويجب ألا تتحرك، ولكنها تشعر أنهم كذبوا وأخذوا الطفل، تعتقد أنهم سيقدمونه أضحية للشيطان، وحين تقتحم عليهم بالسكين يكونون في حفل طقوسي حول الطفل، كانوا طائفة شيطانية وينتظرون أن تلد لهم المسيح الجديد، لم يبع الزوج روحه للشيطان كما فعل فاوست وإنما جسد زوجته كذلك، لقد ولدت مريم الأولى المسيح، أما مريم المعاصرة فهي تلد الشيطان.
حين تقترب روزماري من طفلها لتراه، ستكتشف أنه مسخ على صورة والده، تصيبها نوبة ذعر وهي تنادي الله بينما يصيح بها الجار مردداً كلمة نيتشة عن "موت الله"، ولكنها لن تلبث أن تهدأ وتقترب من طفلها لتهزه بحميمية ونظرة حب دافئ، كان ابنها، كانت الأمومة أقوى.
هذا العالم يمكنه أن يلد شيطانه الخاص ويحبه ويصبح شرط أمنه ورفاهه وثقافته، ولكن لا يمكننا نحن أن نفعل ذلك رغم أننا نلد شياطيننا أيضاً (داعش والأسد وحزب الله…الخ. |
تجديد فاوست:
رغم أن السكن المشترك ظاهرة قديمة، إلا أن المجمعات السكنية والبنايات المزدحمة بالشقق تعتبر ظاهرة مرتبطة بالمدينة الحديثة منذ النهضة الصناعية ثم العمرانية التي اضطرت أعداداً أكبر للسكن في مساحات أقل، فأصبح التوسع عمودياً في البناء بالتوازي مع توسع الطبقة الوسطى أفقياً في المجتمع.
عالم الشقة صورة خلفية عن مجتمع مدينة العمل المفكك حيث تحل علاقات العمل وصداقات المدينة محل الأسرة، يرسم بولانسكي صورة مجتمعاتنا الراهنة كما يراها في عالم الشقة، أشخاص غرباء ووحيدون بحد أدنى من العلاقات، ويسكنون بيوتاً تسكنها ذاكرة آخرين، عالم مغلق من الاغتراب المليء بالعصاب والوسواس والأحداث الغرائبية والطوائف الشيطانية والاغتصاب والقتل والانتحار.
الزوجان الشابان يدخلان عالمهم الجديد في الشقة بقدر قليل ويتلاشى مع الوقت من علاقاتهم الأسرية والاجتماعية السابقة، الزوج الباحث عن نجاح لا يجده إلا بالتحالف مع الشيطان عبر جيرانه من طائفة السحرة وبعد عمى زميله، وتنبني الأسرة نفسها على أساس هذا التحالف، حين يصبح الشيطان سبب الإنجاب، ولا يقف الأمر عند أفراد سحرة، الطبيب المشهور كان من الطائفة، إنها منظومة مجتمعية ممتدة تشكل أمثلة النجاح الاقتصادي والتقدير الرمزي ومرتبطة بالتحالف مع الشيطان.
وحين تلد مريم الشيطان، ستلجأ لله وتناديه بينما تواجهها صرخة نيتشه عن "موت الله"، ولكن روزماري (التي تمثل الجانب الروحاني والجمالي والأخلاقي في الفيلم) لن تُعنى بالنقاش اللاهوتي الأخلاقي حول الأمر، بقدر ما ستغلبها الأمومة، وتتقبل ابن الشيطان.. ابنها، وتشرف على تنشئته وتحبه أيضاً، تصالحت الثقافة إذن مع الحضارة في مشروع الشيطان الجديد.
طفل روزماري هو طفل عالمنا الراهن، بحروبه وسياساته وأيديولوجياته، منذ ظهور أيديولوجيات التغيير الكبرى مع النازية والفاشية والشيوعية، وصولاً إلى خطابات المحافظين الجدد حول الإسلام والشر وحرب الإرهاب، وحتى صعود اليمين المتطرف الأوروبي مؤخراً في مقابل صعود تنظيمات داعش والقاعدة والحشد الشعبي على الطرف الآخر من المتوسط، وحتى في التفكير العادي بالسياسة وتحقيق المصلحة واكليشيه "انفصال السياسة عن الأخلاق"، حيث يكون جحيم الآخرين في الخارج مقبولاً -أو حتى شرطاً- في سبيل تحقيق الجنة في الداخل، طبعاً مع سيول التبرير والتنظير المنهمر حول كل ذلك.
هذا العالم يمكنه أن يلد شيطانه الخاص ويحبه ويصبح شرط أمنه ورفاهه وثقافته، ولكن لا يمكننا نحن أن نفعل ذلك رغم أننا نلد شياطيننا أيضاً (داعش والأسد وحزب الله…الخ)، نحن شياطيننا تأكلنا أولاً.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.