شعار قسم مدونات

بؤس الإنجاب.. أين نذهب يا بابا؟

مدونات - رواية

في البداية، يلزم التنويه بأنَّ ما هو مكتوب هنا يُمنع عن أيّ امرأةٍ حاملٍ، أو أيّ رجلٍ ينتظر مولودًا في الطريق، لمصلحتك لا أكثر.

هل فكّرت يومًا بأنَّك يمكن أن تُرزَق بطفلٍ غير طبيعيّ؟ ارفع يدك إذن.. حسنًا، لم ترفع يدك، ولن يرفع أيّ شخص يده في سؤالٍ مثل هذا، فالجميع يفكِّر في مثل هذا الأمر مثلما يفكِّر في زلزالٍ مثلًا، حادثةٌ أشبه بنهاية العالم، شيءٌ لا يحدثُ إلا مرةً واحدةً في العالم، ولكن هذا البابا، انتهى العالم لديه مرتين..!

في روايته الموجعة "أين نذهب يا بابا" يحكي" جون لوي فورنييه" عن معاناة رجل أنجب طفلين غير طبيعيين، توماس وماتيو، اللذان تبلغ درجة إعاقتهما 80 بالمائة، هذين الطفلين الذين ما إن يدور الحديث عنهما، يغلب الحزن على المكان، كأنّه حديثٌ عن كارثةٍ، أو ذكرى مأساةٍ ما، ولكن، قرر الراوي هذه المرة أن يكون الحديث عن أطفاله للمرة الأولى مختلفًا، أن يحكيه وهو مبتسم.

هل تعلم ماذا يعني أن تكون أبًا لطفلين معاقين؟ ربما لا، ولكن الراوي يعلم؛ هذا يعني أنَّك ستكون مميّزًا عن كلّ الآباء، فلا يشغل بالك تعليمهما، أو مستقبلهما المهني، لا تهتم إن كان القسم الأدبيّ أفضل أم العلميّ، لن يؤرِّق نومك ماذا سيفعل طفلاك غدًا، اطمئن، فلن يفعلا شيئًا.
 

ما معنى أن يموت طفلٌ معاق؟ هل يكون الحزن عليه أقل؟ لا، إنَّ الحزنَ على وفاةِ طفلٍ غير طبيعيّ لا تقل عن وفاةِ طفلٍ طبيعيّ، فمن المؤلم جدًّا أن يموت من لم يكن أبدًا سعيدًا.

يرى البعض أنَّ الطفلَ الذي يولد هو معجزة، فماذا عن الطفلِ المعاق؟ إنَّه معجزةٌ هو أيضًا، ولكن بالمعنى العكسيّ، حدثٌ عارض يحدث مرةً ولا يتكرر، ولكن، ماذا إن تكرر؟ هذا يعني أنَّ هناك طفل إضافيّ، في هذا العالم، لن ينعم بحياة مضحكةٍ أبدًا، فهي سيئةٌ منذ البداية.
 

لم يكن للطفلين وسائل ترفيه، لم يشاهدا التلفزيون، فلن يكونا بحاجةٍ إليه، وبالطبع كانا لا يقرأن الكتب، فهما لا يفهمان ما هي، فهما على الأحرى يظنّان أنَّ هذه الأحرف صفٌ طويلٌ من النمل، يتعجَّب منه ماتيو لأنَّه لا يهرب منه إذا مرر يده عليه.

كان ماتيو يحب الموسيقى، يطرب لها، عندما تمر الموسيقى على أذنه يضرب على كرته الصغيرة محاولًا تقليد اللحن المعزوف، وكان في بعض الليالي يحب دائمًا أن يقلِّد صوت العربيات "فروووووم" كأنّه يقود في سباق، لا يُشغِل باله طبعًا بوالدهِ، حتى وإن حاول والده منعه فلا يُفلِح، فكانت دائمًا تراوده فكرة أن يُلقي به من شرفة المنزل، ولكن هذا لن يجدي نفعًا، فهم في الطابق الأرضي وسيستمر في سماعه وهو يـ "فروووووم" ولن يستطيع أن يستيقظ لعمله مبكرًا.

تلك تكون معاناتك معهما، ولكن ماذا عن الناس؟ فإنَّك إن كنت أبًا لهذين الطفلين سيتعين عليك سماع الكثير من التفاهات، والاقتراحات المقززة، فتجد أحدهم يسأل عن السبب الذي منعك من عدم خنقهما كقطةٍ حين ولدا؟ متخيل؟ وعندما يناما، تتساءل بماذا يحلمان؟ بأنّهما نبيهان؟ أو أنَّهما رواد فضاء؟ ماذا يمكن أن يكون ذلك الفيلم الذي يشاهدانه عندما يرحلا إلى عالم النوم؟ ماذا يا ترى؟ هذان الطفلان الودودان، يحب توماس كثيرًا أن يُقبِّل الناس، أغلب الناس تنزعج من هذا، أمرٌ طبيعيّ، طفلٌ في الثانية عشر من عمره، فجأة يقفز فوق كتفك يريد أن يقبّلك، يَقبَل البعض، ثم يمسحون اللعاب على وجوههم بمنديلهم ويقولون "كم هو لطيف!".

ولكن ماذا إن مات؟ ما معنى أن يموت طفلٌ معاق؟ هل يكون الحزن عليه أقل؟ لا، إنَّ الحزنَ على وفاةِ طفلٍ غير طبيعيّ لا تقل عن وفاةِ طفلٍ طبيعيّ، فمن المؤلم جدًّا أن يموت من لم يكن أبدًا سعيدًا، ذلك الذي جاء إلى الأرض ليأخذ فيها جولةً سريعةً من أجل فقط أن يعاني. عذرًا، فهذه الكلمات ليست للسخرية منهما، هو يريد أن يسخر من ذاته، يريد أن يُشعر نفسه بأنَّه قادرٌ على الاستهزاء ببؤسه، فلا سبيل له غير ذلك.

أكمل الراوي الحديث عن بؤسه، عن أمانيه وطموحاته التي كان يود أن يفعلها معهما، لو كانا طبيعيين، كان سيأخذهما إلى المتحف، يسمع معهما الموسيقى الكلاسيكيّة، يهديهما الكتب الكثيرة، يشاهد معهما الأفلام في السينما، وبعدها يتناولون وجبة العشاء في مطعم جيّد، ثم عندما يكبرا، يقام لهما حفل زواج كبير، يدعو المعازيم، يفرحون جميعهم.. ولكن، لم يكونا طبيعيين. ولكن لهذا أيضًا مميزات، فهما لن يمتلكا سجلًا إجراميًا، أو يسرقا بنكًا، وربما كانا سيتزوجان بُلهاء، أو ينجبان أطفالًا غير طبيعيين.. ولكن، لم يكونا طبيعيين.

بعد أن قرأت هذه الرواية "أين نذهب يا بابا" شعرت بأنَّه من الأدب أن نقف أمام أحزان الآخرين التي لم نذق طعمها، كيف نحكم عليها؟ علينا أن نتنحى جانبًا، أن نقف صامتين في حضرة هذا الألم.

عادةً ما يهتم الآباء بأطفالهم عندما يبدؤون في طرح الأسئلة، ويفرحون عندما يلاحظون ذكاء أبنائهم، ولكن جون، لم يهتم، لم ينتظر تلك المرحلة من الأصل، لن تُطرح عليه هذه الأسئلة، فكل ما يسمعه، هو سؤال واحد، سؤال توماس المتكرر دائمًا "أين نذهب يا بابا؟" فهو لا يستطيع أن يسأل سوى هذا السؤال فقط. كان يتمنى أن يكون له أطفالٌ يفخر بهم مثل الجميع، يعرض على أصدقائه شهاداتهم، جوائزهم، كان سيعرضها في فاترينة في غرفة الصالون حيث يمكنهم أن يشاهدوها معًا.. ولكن، لو كانا طبيعيين.

كتب جون لوي هذه الرواية محاولًا إهداء هذه القصة لأبنائه، فهما لم يستطيعا القراءة ولا الكتابة، فكتب عنهما؛ ليترك أثرًا طيّبًا، فأحيانًا كان يتملّكه إحساسٌ بأنَّه ترك آثارًا، ولكن كتلك التي نتركها بعد السير بأحذية ممتلئة بالطين، على أرضية مدهونة، وندع أنفسنا نتبادل السُباب بعدها.

يقال أنَّه نظرًا لثقته بأن ابنيه لن يقرأ الكتاب، أخذ راحته في الكتابة دون أي خوفٍ، أو حرجٍ، أو شعورٍ مسبقٍ بوخز الضمير. كتب كتابه دون أن يكترث للقناع الذي يضعه عادةً الآباء الذين رزقوا بأطفال غير طبيعيين، ذلك القناع الذي يعطي انطباعًا لمن يراه بأنَّ الأشخاص الذين يختفون خلفه عظماء، أقوياء، وصابرون!

بعد أن قرأت هذه الرواية، شعرت بأنَّه من الأدب أن نقف أمام أحزان الآخرين التي لم نذق طعمها، كيف نحكم عليها؟ علينا أن نتنحى جانبًا، أن نقف صامتين في حضرة هذا الألم، الذي لا نعرف حقًّا كيف تحمّله الكاتب، يا إلهي، لقد تحمَّل الرجل كمية من الوجع التي لا تُطاق!

وأخيرًا، يلزم التنويه بأنَّ أي كلمة غير مناسبة في رأي البعض هي من الترجمة العربية للرواية، وليست من خيالي. ولا تفوّتوا قراءة هذا العمل الصغير، فقد صدرت ترجمة الرواية عن سلسلة الجوائز، بالهيئة العامة المصرية للكتاب، ترجمة: أيمن عبد الهادي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.