شعار قسم مدونات

الحياة طاولة لشخصين

blogs - طاولة
"جان دومينيك بوبي" كاتب فرنسي وصحفي ومحرر في مجلة أزياء مشهورة، أصيب بحالة من الشلل التام، لم يكن يتحرك في جسده كله إلا جفن عينه اليسرى، وفي هذا الوضع استطاع أن يعيش لسنة كاملة قبل أن يموت مخلفاً كتاباً كتبه خلالها.. كتبه بجفنه الأيسر وبأصدقائه الذين لم يتخلوا عنه. 

ومن الجفن الأيسر لـ "جان" للقدم اليسرى لـ "كريستي براون" الذي استطاع أن يرسم ويكتب ليس فقط بفضل قدمه تلك، بل بفضل أمه التي آمنت من البداية بأنه ليس معتوها وأنه فقط ذا إعاقة يصعب معها الكلام، وتصعب الحركة إلا من قدم يسرى. وأخيرا "جون ناش"، وانفصامه القوي ومعاناته العصيبة مع المرض العقلي، ولكنه مع ذلك وصل إلى أن حاز "نوبل" في العلوم الاقتصادية ليس فقط بسبب عبقريته بل لوقوف حبيبته وزوجته إلى جانبه والتي لم تدع يده حتى حين كان من المفترض أن تهرب منه إلى مكان آمن.

ثلاث قصص حقيقية انتقيتها من بين ملايين القصص: التي نعرفها، والتي عبرت في هدوء دون أن ترى الضوء. (قصص حقيقية.. ليست مختلقة)، فقط أردت التأكيد على هذا المعنى قبل أي شيء، ولي شخصياً قبل أن يكون لكم، فمن الصعب جداً أن تبقى مؤمناً بشيء جميل وسط كل تلك الظروف. والآن، لماذا تلك القصص الثلاث تحديداً؟

ببساطة ومباشرة.. لأن الحياة مع آخرين يحبوننا بصدق ويؤمنون بنا تختلف. ولا يعني كلامي أنك لن تستطيع الحياة بمفردك، بل يمكنك. فقط، كل ما أقول، إن الوحدة أكثر قسوة مما تحسبها، وأقل أماناً مما تعتقد، بل إن الفطرة نفسها في عكس الوحدة، القوة تكمن في الجماعة والرفقة كما تعلمنا وعلى هذا فطرنا وفطرت كل الكائنات.

يمكنك أن تحيا بمفردك، لكن لا يمكنك احتمال الوحدة دون تداعيات نفسية تفوق تلك التي قد يسببها لك البشر. ولن يخلو حديث معترضٍ من سؤال عما يردده الجميع من عبارات عن الخذلان والخيانات والكذب الذي تعرضوا له! لكن هذا أعلمه تماماً، ولا أنكره ولا أحاول حتى، فأعرف وأقابل يومياً هؤلاء الذين سيطر عليهم إحساس دائم بعدم الأمان، ومشكلة حقيقية في التقرب أو حتى في ترك الباب مفتوح للآخرين كي يتقربوا هم منهم، وكل ذلك للأسباب السابقة ذاتها.

الحياة تطلب الدفء والحميمية التي لا تجدها في جلوسك وحيداً في المقهى أو في أي مكان، بل تجدها في أوضح صورة على طاولة لشخصين يثق كل منهما في الآخر ويحملان الحب لبعضهما ولا شيء سواه.

لكن كما أعلم ذلك وأعرفه حق المعرفة، أعرف أيضاً أن كل تلك الأسباب التي تنفرنا من الاقتراب من أحد لا تعادل لحظة واحدة من الفرحة التي يصنعها شخص يحبنا ونحبه، وبالطبع كلها لا تذكر إلى جانب تلك الحياة التي تتفتح في وجوده إلى جوارنا.. ذلك الشخص بعينه الأخ، الأب، الأم، الصديق، الحبيب هو السر الأعظم في حياة أسعد البشر، أو أتعسهم حتى. وحين تجده ستعرفه، وستعرف معه ما تعنيه تلك الكلمات، ستعرف كيف يمكن لشخص أن يحمل كل الطمأنينة والسعادة والراحة في العالم، ستعرف كيف لشخص أن يكون مهرباً وملاذاً تلجأ إليه حين تضيق عليك دنياك.

وفي الوقت الذي تتداعى قوة إرادتك وتتخلى نفسك عنك، لن يتخلى عنك إنسان مخلص محب. بل إنه في لحظة ما قد يصبح الحائل الوحيد بينك وبين الانتحار هو ذلك الشخص. كل شيء معه سيختلف. ربما لن يمنع الاكتئاب من الوصول إليك، لكن سيمنعه من تملكك وسيحاربه أكثر مما قد تحاربه أنت. ربما لن يوقف الخطر الذي يحدق بك لكنه سيطمئنك ويقلل خوفك منه، وإن حدث سيخرجك من بين براثنه. وبالطبع لن يمنع عنك الموت لكنه سيجعل لموتك معنى، إذا مات جسدك ومت في عقول الجميع لن تموت في قلبه وعقله هو الذي لن ينساك أبداً.

قد لا يوصلك إلى حلمك لقلة إمكاناته وقد لا تكون مع النقود الكافية لمساعدتك لكنه سيدعمك ويقف معك إذا أنكرك الجميع وسيأخذ بيدك إذا هويت، فلن يدعك تستسلم للسقوط، وسيدفعك حتى تصل. هو ليس شخصاً خارقاً لكنه فقط يحبك كما تحبه ويفعل لك ما ستفعله أنت له.

راهنوا على البشر مهما خذلكم السيئون منهم، وأضمن لكم أن يظهر ذلك الشخص الأنقى والأنسب في وقته ليعوضكم ما فاتكم، وليطيب جروحا خلفتها أيام الاختيارات الخاطئة. راهنوا على البشر كل يوم لأن الحياة تحمل في الأنس معنى أكثر مما تحمل في الوحدة، لأن البقاء يتطلب الرفقة، لأن السعادة تتضاعف بوجودهم، لأن الحزن يقل معهم، لأن الحياة تطلب الدفء والحميمية التي لا تجدها في جلوسك وحيداً في المقهى أو في أي مكان، بل تجدها في أوضح صورة على طاولة لشخصين يثق كل منهما في الآخر ويحملان الحب لبعضهما ولا شيء سواه، نعم، الحياة في أسعد لحظاتها وأبهى صورها طاولة لشخصين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.