شعار قسم مدونات

أول درسٍ في السياسة..

blogs- صدام
كان ذلك أيام دراستي بإعدادية بئرنزران جنوب المغرب، وبالتحديد بلدة إفران الأطلس الصغير، حين بدأت الأصوات تعلو شيئا فشيئاً حول حرب مرتقبة على دولة عربية –هي العراق- تشنها الدولة العظمى، "أمريكا" وما أدراك ما أمريكا، وكانت الحجة أن "صدام حسين" رحمه الله، طور أسلحة الدمار الشامل وهو ما سيشكل تهديدا لأمنها وأمن حلفائها في المنطقة، وإلى جانب هذا، هناك أبواق أخرى تعلو بكون العراق دولة بنظام ديكتاتوري، ما يحتم نقل التجربة الديموقراطية إليها بالحديد والنار.

لم تكن هذه الأسباب في وجهة نظرنا نحن التلاميذ مقنعة، بل لن تكون كذلك إطلاقا، كما الأمر بالنسبة إلى الكثيرين ، فصدّام رمز من الرموز الثقيلة الوزن الحاضرة بقوة في مجتمعنا البسيط آنذاك، تغنى به الشعراء الأمازيغ في محاوراتهم الشعرية ومجاراتهم، ومدحته النساء في الأعراس والمناسبات، واستحضره الآباء ومجدوه في مجالسهم، وكان الكل يستقوي به على الجبهات المعادية للعرب والمسلمين.. 

منذ ذلك الوقت..فقدت الثقة في الشعوب، وآمنت فعلا أنها قطيع يمكن لأي كان أن يسوقها، مقطع واحد من نشرة إخبارية يمكن أن يؤثر بشكل كبير ويغير كل شيء.

رُفعت التقارير، واستشير الشعب الأمريكي البئيس، ولو لم يسمع لرأيه، وخرج القرار بشن الحرب من فوهة البنادق والرشاشات والمقاتلات الحربية في ليلة سوداء، فأعلنت قناة الجزيرة الخبر المفزع تحت عناوين كبيرة بخط مضغوط "الحرب على العراق". اهتاج الرأي العام الدولي والمحلي، ولم يرق لنا الأمر نحن التلاميذ، حيث قادنا الأكبر سنا ومستوى منا، وشجعنا أساتذة على خوض إضراب شامل في المؤسسة، وتنظيم مسيرة غاضبة خارج أسوارها هاتفين بشعارات من قبيل: (أمريكا أمريكا عدوة الشّعوب.. يكفينا يكفينا يكفينا من الحروب)

وأيضا شعارات نستعذبها وننجذب إليها ونتحمس لها كثيرا: (إن شعب العراق له قوةٌ.. تفوق الدمار وتبغي السلام) في إشارة إلى عظمة العراق وعدم أحقية أي كان في الاعتداء عليه تحت أية ذريعة، كما رفعنا شعارات تندد بوحشية جورج بوش الذي نقرن اسمه بكلمة "السفاح" ودعم بريطانيا له في شخص طوني بلير والذي بدوره وصفناه بالكلب.. جبنا مركز البلدة مرورا بالسوق الأسبوعي ودعمَنا بعض الساكنة والاخرون اكتفوا بنظرات حيرة وإعجاب.

مر ذلك اليوم والتلاميذ عادوا كل إلى منزله، والقوات العراقية بعد ذلك لم تبدِ مقاومة شرسة كما كان الكل يتوقع، ولم يظهر صدام الأسلحة التي من المفترض أن الوقت حان لاستعمالها بعد اشتعال الحرب، ولم يحدث إلا ما يخيب الآمال، دخلت أمريكا العراق تقريبا بمقاومة محتشمة.

ساد جو من الشك والريبة في الأجواء وخاب ظن العديد من الناس فيما لا يزال البعض ينتظر مفاجأة ما قد يخرج بها "صدام" في أي وقت. راجت أيضا آنذاك في الجرائد أحاديث ضعيفة تنسب إلى الرسول (ص) يعد فيها الصحابة بنصر محقق لصدام أو رجل اسمه صادم كما ورد في الأحاديث النبوية المزعومة وهذا بعضها: (…سيخرج لهم رجل يقال له صادم، يبيدهم فيها بيدا ولن يعود منهم أحد، قيل ومتى يا رسول الله، قال: بين جمادى ورجب، وترون فيه العجب).

لم تشرق شمس اليوم التالي، حتى تغير الرأي العام فجأة ودون سابق إعصار، وصار صدام حسين يستحق ما حلّ به فجأة، وصار الكل منقلبا عليه، بدءا بأفراد العائلة المقربين مني، وكل من كان بالأمس يفخر به ويتمنى له النصر والعزة ويقرن نصره بنصر المسلمين. لم أستطع في البداية فهم الأمر، كيف يسهل أن ينقلب الناس على مواقفهم فجأة؟ وكيف بهذه السهولة تخلوا عن بطلهم وقائدهم؟ وكيف انهار الرمز بين لحظة وأختها؟

لم تشرق شمس اليوم التالي، حتى تغير الرأي العام فجأة ودون سابق إعصار، وصار صدام حسين يستحق ما حلّ به فجأة، وصار الكل منقلبا عليه.

لم يكن الجواب سهلا، ولم يستوعب دماغي الصغير ما حدث إلا بعد لأي، فقد كانت وسائل الإعلام السمعية والبصرية تنقل صورا مؤثرة جدا، لعراقيين يبتهجون ويحتفلون ويهللون وهم يستقبلون الجنود الأمريكيين، ويفرشون لدباباتهم الأرض بالورود ويصيحون، وصارت المفاهيم والكلمات الأكثر انشارا في الأوساط الإعلامية: الصّداميون.. الدكتاتور صدام.. الديموقراطية الغربية.. احتفال الشعب العراقي بسقوط الطاغية.. لقد كان نظاما دكتاتوريا…

كما بثت القنوات صورا أخرى لجنود يُسقطون تمثال صدام ويساعدهم مدنيون عراقيون في جو من الثأر والفرح والابتهاج.. انقلب الجمهور من التأييد إلى الانقلاب على صدام، من الحب إلى الحقد، من الدفاع إلى التبرير، بفعل الآلة الإعلامية التي ظلت تغسل للناس أدمغتهم نهار مساء، تبيح لهم ما تريد وتحرم ما تريد.

منذ ذلك الوقت..فقدت الثقة في الشعوب، وآمنت فعلا أنها قطيع يمكن لأي كان أن يسوقها، مقطع واحد من نشرة إخبارية يمكن أن يؤثر بشكل كبير ويغير كل شيء، أو كما وجدت في كتاب نسيت عنوانه آنذاك يتحدث عن المؤامرة وعن التلموذ والبروتوكولات الصهيونية: الجماهير عمياء، فاشتروها بالأموال وسُوقوها كالبهائم إلى أهدافكم. وكان أول درس لي في السياسة رغم أني لم أستوعبه بسهولة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.