شعار قسم مدونات

إعادة إنتاج الحركة الإسلامية

blogs - شيوخ دين
حركة النقد ظاهرة صحية في الجماعات الحية، ولكنها حين تتحول إلى تشفٍ وتشهير، تصبح حالة انتقامية وإجهازا على جريح، وتتحول (نون) النقد (حاء)، حين ترى سيلا من الانتقادات تُصب على الحركة الإسلامية اليوم، وترى من أبنائها من يطير فرحا بقصاصات النقد ينشرها في الأصقاع ويغدو فرحا متهللا وكأنه لا يصيبه ما أصابها، وفرق بين النقد المصلح وبين التشريح.

من جهة أخرى تعيش الحركات الإسلامية حاليا موجتين عنيفتين من النقد، أحدها: نقد خارجي عنيف لكنه قاصر عن مشاهدة أروقة الداخل وزواياه غير آبه بجهود أصحابه وإن فشلوا وأخفقوا، والثاني: نقد داخلي ناعم؛ لكنه محب ينظر بعين الرضا؛ فهي بين نقد ناعم وحاد وكلاهما لا يحقق لها ما ترجو ولا يمنحها سوى الإرباك.

تعاني الجماعات الإسلامية بمختلف مسمياتها على الساحة من عدم امتلاك مراكز دراسات دقيقة تشخص لها نقاط قوتها وضعفها، وتحدد فرصها ومخاطرها حسب "SWAT" مما زاد تصرفاتها غموضا ومجازفة، وكانت مقولتها الشائعة (ما بدى بدينا عليه)، وتبخرت أعداد الفرص من بين يديها، واتضح أنها تعيد إنتاج نفسها بعد كل عقد من الزمان وتجتر تجربتها من جديد، وتبين أن سلم الأولويات خاصتها كان متصدعا، وكان ينظر لصيحات الفضلاء من بعض الأخطار عبارة عن مبالغات وتضخيم.

معركة الفهم هي جبهة أخرى بل الجبهة الحقيقية التي يجب أن يتم التركيز فعليا عليها وإعادة تأهيلها جيدا، حتى ترقى إلى المستوى المعرفي الدقيق اليوم.

إن طبيعة الأحداث العملاقة التي نشهدها اليوم غربلت الكثير من الشوائب التي طالما ظلت تلك الجماعات تخفيها عن أنصارها ومحبيها، وظل عدد من أعضائها ينسجون المدائح المعلقة في ثنائها وترقيع أخطائها، وبحت الحناجر هتافا، واحمرت الأيدي تصفيقا بأن كل شيء على ما يرام.

في مقابلة العلامة الددو مع أحمد منصور في "بلا حدود" أشار الشيخ إلى أن هذه الهزات العنيفة التي زلزلت الجماعات الإسلامية زلزالا شديدا وأخرجت أثقالها وقال الأعضاء مالها؟ إنما هي فرصة ثمينة للمراجعات وإعادة ردم الشقوق التي يتسرب منها الماء فيغرق الجميع، وقديما قال "ليونيد بريجنيف" رئيس الاتحاد السوفييتي بين عامي 1964 و1982 (نحن إن لم نكتشف أخطاءنا قتلتنا). ونحن كذلك أيها الرئيس… 

لست هنا بصدد الإجهاز على جريح حتى يصرخ قائلا: "ليس هذا وقته، انشغلوا بواجب الوقت رحمكم الله".. ومتى يبدأ وقته رعاك الله؟ إن أُنهكنا منتصف الطريق ونحن ننتظر الوصول إلى تلك السواحل التي لم تلح في الأفق بعد!! لكن التقويم أثناء السباحة يكسبنا المزيد من المهارة والتجويد يساعدنا على الوصول، ويسمح لنا بمزيد من التألق.. وهناك حزمة من الخطوات يجب أن تتقدم الطريق في مثل هذا المنحدر الخطر ربما أستطيع الإلماح لبعضها.

نحن بحاجة ماسة اليوم أكثر من ذي قبل إلى غربلة شديدة إزاء عدد من الثقافات التي شاعات وانتشرت داخل أروقة الجماعات الإسلامية وتم التعاطي معها جيلا بعد جيل.

تلقي الحركة الإسلامية اليوم بكامل ثقلها في الصراع السياسي متجاهلة مناطق أخرى تشكل عاملا قويا في البقاء، فجميع أعضائها ومحبيها يمتلكون قدرات جبارة متعددة ما لم تحسن توزيعها سيديرون وجوههم نحو مراكب أخرى تشبع رغباتهم وتسد جوعهم. فلا بد من خطوة ذكية توزع تخصصاتهم وتولي وجهاتهم، وتساهم في الحفاظ على إدارة مختلف الجبهات ساخنة تحت أحلك الظروف.

معركة الفهم هي جبهة أخرى بل الجبهة الحقيقية التي يجب أن يتم التركيز فعليا عليها وإعادة تأهيلها جيدا، حتى ترقى إلى المستوى المعرفي الدقيق اليوم، والقدرة على الصمود الراسخ في منصات الوعي المختلفة.

يلفت فريد الأنصاري إلى أن تجديد الدين ليس سوى تجديد الفهم له والعمل به، فموضوع التجديد بهذا المعنى هو ذواتنا لا ذات الدين، ولذلك كانت سنة الله في خلقه ألا يغير ما بقوم (حتى يغيروا ما بأنفسهم). إن إبداع الفهم وتجويده هو المسار الآمن للجميع من تقلبات الطقس، وهذه العواصف الفكرية والزلازل المعرفية المثيرة للغبار وانعدام الرؤية هي التي جلبت الوسواس القهري متلبسا ببعضنا فيما يحمل.. والقصد الإفهامي هو من أوائل مقاصد الشرع كما صرح بذلك شاطبي الموافقات، وحين الغفلة عنه وإهماله عن الأفراد المنتمين للجماعات الإسلامية سيكوّن عاصفة داخلية هوجاء تؤذن بالانقسامات والخلاف حول تعاطي الأحداث وتناولها وقد لاح ذلك في بعض مسارات اليوم.. وتحصين هذه الجبهة الفكرية بمراكز دراسات دقيقة يُبنى عليها القرار الرشيد، يسد فجوات كثيرة من تلك الانتقادات التي تطفو على السطح، مع غياب صورة بانورامية عالية الدقة عن معطيات اليوم وفهم قواعد الإشتباك، وما كان مدروسا غير المرجوم بالغيب.

ينبغي على الحركات الإسلامية اليوم أن تقفز بأعضائها من الشرعية التأريخية وأحقية التأسيس إلى شرعية الكفاءة بالانتخاب وتحويل الأعضاء من أتباع إلى شركاء، إن السكوت عن الأخطاء وعدم إعفاء مرتكبيها من مناصبهم القيادية ومحاسبتهم، وتلقي كل خطأ بالقبول والتسليم ظاهرة شنيعة؛ فما أفسد أحوال الجماعات الإسلامية إلا إقناع مقلديها أن ما يقولونه بمثابة ما قاله الشرع، أو كما أشار الإمام العز بصيغة شبيهة.

إن تجربة جماعة الخدمة التركية، جديرة أن نقرأها من جوانب الإفادة ونضع تحركاتها على الطاولة المستديرة فربما نستلهم منها ما يفيد، وهو القول كذلك في تجربات أُخر.

نحن بحاجة ماسة اليوم أكثر من ذي قبل إلى غربلة شديدة إزاء عدد من الثقافات التي شاعات وانتشرت داخل أروقة الجماعات الإسلامية وتم التعاطي معها جيلا بعد جيل، حتى أصبحت بمثابة السلوك التنظيمي المدل على سلامة الانتماء ونقائه من الشوائب مثل: (ثقافة الإقصاء، واحتكار الحقيقة، وخصخصة التدين، والقول الراجح، الحق والباطل، والتشيع للخطأ، والتصنيف المظنون) وغيرها من تلك الثقافات التي نشرت الفيروسات الفكرية بدواخلنا حتى غدونا على الناس تنظيمات معصومة لا تقبل النقاش، وتلبدت تلك الثقافات حتى أصبحت سحبا تمطرنا بين فينة وأخرى بماء يشعرنا بالعصمة عن الأخطاء.

تجديد حركة الوعي بما يتناسب مع معطيات اليوم، والفصل بين العمل السياسي والدعوي، ومحاسبة أصحاب المسؤوليات على أدائهم وإقالتهم إن مارسوا التقصير والإهمال، ونشر ثقافة التنوع وقبول الآخرين واستيعاب قدراتهم، والقبول بالنقد، وإنشاء مراكز التقويم، والشفافية الإدارية الواضحة، ونقاش الآراء المضادة، وتبادل الملاحظات المعارضة، ومخاطبة أهل الاختصاص في الموضوعات ذات العلاقة، والاستعداد الجيد أمام كل قضية بملفاتها، وقراءة حركات التحول ونقاط التأريخ الفاصلة، واستجواب التأريخ من خلال غرف بحثية تغوص في أروقته، وملاحظة دورة حياة الدول وأفولها بعدسات مكبرة، والتخطيط المدروس للتحركات العملاقة، والعمل المؤسسي الذي لا يقبل المجاملات، والتمكن من جبهات الإعلام وإمبراطورياته، وإحياء الدرس الاجتماعي ونظريات القيادة، كلها ملفات على طاولة البحث والتطوير.

إن تجربة جماعة الخدمة التركية، جديرة أن نقرأها من جوانب الإفادة ونضع تحركاتها على الطاولة المستديرة فربما نستلهم منها ما يفيد، وهو القول كذلك في تجربات أُخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.