شعار قسم مدونات

أصنام أمس.. أيديولوجيات اليوم

blogs - الأصنام
مُتقمّصاً شخصيّةَ "علي بابا" مُمارساً دوره، مُستلقياً أنتَ على بساط الريح مُتشبّثاً بـِحوافّه، تُسرّح أبصارك وتصولُ وتجولُ بها حول العالمِ أجمع، لا تقيّدك الأماكن ولا تحتاج لتأشيرة للدخول بين القارّات والبلدان، ولا يحكمك الزمان، هذا لأنّ آلة الزمن من أدوات البِساط، عُدتَّ من رحلتك الفارهةِ.

تلك مسروراً مُبتهجاً تَحلمُ بأُختِها، أخبرتنا بكل تفصيلٍ من تفاصيل هذه الرحلة، من أول أن وُضِعت قدمك على البساط إلى أن لامست الأرض عند نزولك منه، نعم لقد كانت رحلةً شيّقة، وَجّهنا لك سؤالاً ويبدو أنّنا فاجأناك به، وقُلنا لك: "هل رأيتَ من خلال رحلتك تلك أُناسا بَدَوا لك من الوهلةِ الاولى أنّهم من زمن الجاهليّة؟ أجبتنا من دون تَلكّؤ: نعم، لقد رأيتُ أُناسا يسيرون على الدّوابّ، منهم الحُفاة ومنهم منِ الباليةِ ملابسهم، لا يوجد مَوضِعُ شبرٍ منها إلّا فيه شقٌّ مشجوج أو قد تمّت حِياكته، وأجزِم بأنّهم لم تَتلقى أُذناهم يوماً كلمة "تطوّرٍ أو حَضارة".. حسناً، هل شاهدت شيئاً غريباً؛ أُناسٌ يعبدون الأصنام مثلاً، يصنعنون تماثيل من الصلصالِ والفخار ويُلبسونهم رِداء الإله المُزيّف، والمنكوصِ على عقبيه ويقومون بعبادتهم؟ همهمتَ قليلاً ثمّ قُلت بإجابة لا تحملُ التكذيب: لا لم أر قطّ.. شكرناك وذهبنا..

لم يكذب علينا الرجل.. نعم، وإنّنا لو أردنا أن نقوم بِرحلةٍ كرحلته فسنجدُ ما وجد، إنّنا لا نكاد نجد في زماننا الذي نعيش من يزل يَعبد الأصنام إلّا ما تَوارت عنه أنظارنا وهم قِلّةُ القِلّة، إلّا أنّ فكرةَ الأصنامِ تلك لم تَزل مُتربّعةً في عقولنا وآخِذَةً الحيّزَ الأكبر فيه، ولكن بأشكالٍ هُلاميّةٍ أكثر وعَقراً للعقولُ فيها شديد…. إنّها أصنامُ الفكر والعبوديّة الزائفة والتبعيّة العمياء، مُستخدماً آلة الزمن لنعود بها إلى الماضي ونتأمّل سيرةِ نبيّنا مَحمد ﷺ الذي هو الرمزُ الأكبر لهادمِ الأصنام ومُزعزع كيانَ وَثنيّة العبوديّة، نَجد أنّه بُعِثَ عليه الصلاة والسلام قبل الهجرةِ بثلاثة عشر عاماً، ثم هدمَ الأصنام التي كانت حول الكعبة -والتي يُقدّر عددها كما تقول الروايات بـ 365 صنماً يُعبدُ من دون الله- إلّا بعدَ العام التاسع للهجرة، بعد فتح مكة بـِعام، أي بعد مُضيّ 22 سنةً من البعثة، لماذا يا رسول الله ذاك التلكؤ؟ أوليسَ الشّركُ بالله هو أعظمُ الذنوب وأوبخُها وأشنعُها؟ ماذا كان قصدكَ من هذا..

عندما احتُلّت الهند من القوات البريطانية، وقد كان عدد الهنود يفوق عدد الجيش البريطاني أضعافا، وقف جمال الدين الأفغاني مُوجّهاً كلمته لأهل الهند: "يا أهل الهند والله لو مسخكم الله سلاحف لسحبتم جزر بريطانيا إلى الهند.

لقد كانت تلك الفِعلة بمثابةِ رسالة يُريد أن يُوصلها لنا النبي الكريم، بأنّه لا بُدّ من تحرير المفاهيم قبل تحرير الأفراد، فلم يكن تحطيمُ الأصنام -بهيئاتها الخارجية- هدفُ الرسول وهدفُ الدّين بقدرِ ما كان همّه هدمُ الأصنام العقليّة والفكريّة المُتشعبة، هدمُ التخلّف الشائع، ونَبذُ كل فكرةٍ جاهليّة مُتخلّفة لا تُمت إلى الإسلام بأيّ صلة، لقد كانت تلك الفِعلة مرحلة انتقاليّة في تاريخ البشريّة من تدنيس الأفكار الجاهليّة الهالكة والتخلّص من شوائبها، إذ كيف لنا تغييرُ مُجتمعٍ نحن محكومون ومستجيبون لكل نظمه ومسلّماته ومواضعاته، لقد كان هذا هو الهدف الأول لرسول الله، أن يُحرّر العقول من استعباد الأفكار الشنيعة المُستفحلةِ فوق سقفِ الدّين، المُتجاوزةِ لحدوده، والمُنساقة تحت رِبقةِ شريعةِ الغاب، القويّ فيها يأكلُ الضعيف، الشريفُ مُكرّم، والضّعيفُ مُهان، والتي إذا ما اندلعت فلن تستكين سبيل البشريّة، ولن تقوم قائمة للإنسانيّة، إلى أن يأتي الله بأمرٍ من عنده..

لا تتوقّف فكرة هذهِ الأصنام عند كبير ولا صغير ولا مُتعلم أو جاهل ولا ذكر أو أنثى، بل إنها لا تعبأ بكونكَ مسلم أو كافر ولا بوذي ولا شركسيّ، إنها ليست حِكراً على أحد.. إنها مُتاحة للجميع بلا استثناء.. موردٌ مجانيّ في سوق التخلّف.. وإنّه لمن الطبيعيّ جداً أن ترى في أيّامنا التي نعيش من يعبدُ أصنام العقل "هُبَلُ الفكر".. لقد وضع نبيّنا ﷺ اهتمامه نُصبَ الفكر وضِراوةِ تحريره، فبنى جُلّ الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً، فعندما صنع الإنسان وتمكّن من فكره وقد أزال غُبار الوَثنيّة وتَرِحات الجاهليّة هدمَ بُنيانهم الذي بَنَوا، وكما ورد أنّهم عندما علموا بِتحريم الخمر أُغرقت المدينة يومها بالخمر من مخزون الصحابة رضي الله عنهم..

لأنّهم لم يتذوّقوا ويستشربوا طعم حريّة الفكر يوماً، فلقد فَضّلوا أن يكونوا عبيداً على أن يكونوا أحراراً، فلا تَعبأ بهم وذَرهم وما يعبدون..

التخلّف يهدم أُمماً ويضعها، يُقزّم القدرات ويقفُ عثرةً عارمة في وجه النهوض، أصنامٌ قُربانها "المزيد من التخلّف" "المزيد من اللاوعي".. عندما احتُلّت الهند من القوات البريطانية في القرن الماضي وقد كان عدد الهنود يفوق عدد الجيش البريطاني أضعاف أضعاف أضعاف، وقف جمال الدين الأفغاني مُوجّهاً كلمته لأهل الهند قائلاً: "يا أهل الهند والله لو مسخكم الله سلاحف لسحبتم جزر بريطانيا إلى الهند، ولو بزقتم لأغرقتم بريطانيا بأكملها"، فكانت تلك الكلمات الرعيل الأول لتحرير الهند بعد أن نُكِسَ شعبُ الهند على رؤوسهم..

فلا جامعاتنا اليوم ولا مدارسنا تحطم أصناما أو تهدم أوثانا تصلّبت وأخذت مكاناً في رؤوسنا.. فما أحوجنا اليوم إلى حلقات المساجد وإعادة دراسة سيرة النبي ﷺ المُمنهجة والمنتظمة الصالحة لكل زمان ومكان، الاحتكام إلى القرآن وسيرة نبيّه هما المعولين الوحيدين لهدم تلك الأوثان المتجذّرة في عقولنا والمُعشّشة فيها لنعود ونغرسُ فكراً دينيّاً واعياً جديداً..

سيعترضك كثير نعم، ويقف في وجهك كثير نعم، وسيتخلى عنك كثير نعم، ولربما من أقربِ الناس لك نعم هذا وارد، ذلك أنّك قررت أن تكفر بأصنامهم، ولأنّهم لم يتذوّقوا ويستشربوا طعم حريّة الفكر يوماً، فلقد فَضّلوا أن يكونوا عبيداً على أن يكونوا أحراراً، فلا تَعبأ بهم وذَرهم وما يعبدون..

فاللهمّ عِتقاً من عُبوديّة الفكر، إلى حريّة الفكر، وانهضْ بنا من حضيضِ أفكارنا ومُرادنا إلى عظيمِ مُبتغاك ومُرادك، فما رأيتُ أشدّ على الإنسان من نفسه، ولا ضالاً غارقاً في الضلال كمن ذكرتهُ في كتابك العزيز "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكّرُونَ"..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.