شعار قسم مدونات

يَذْهَبُ جُفاء!

blogs - palestine

قد يكونُ تسليط الضّوء على بعض قصص الفشل والخُسران مهمّاً بقدر فعل ذلك مع قصص النّجاح والنّهايات السّعيدة، ذلك أننا نحتاجُ أمثلةً عمليّةً على "فأمّا الزّبد فيذهب جفاءً" كحاجتنا لأمثلة "وأما ما ينفعُ النّاس فيمكثُ في الأرض"..

المشهد الأول: 
تخيّل معي.. الساعة: 5:00 مساءً.
اليوم: الثلاثاء 11 نوفمبر 1918.
الأجواء: خواتيم معركة طاحنة صمد فيها الفرنسيون صموداً أسطورياً بقيادة هنري بيتان ضد القوات الألمانية، عرفت تلك المعركة بمعركة فردان.
المكان: عربة قطار منفصلة، في كومبيين- فرنسا.
الحضور: وفديْ دول الحُلفاء (بقيادة فرنسا)، ودول المركز بقيادة ألمانيا.
الحدث: توقيع اتفاقيّة الهدنة وإنهاء الحرب العالمية الأولى، بعد مقتل أكثر من 17 مليون إنسان.
بعد الحرب.. تم إنشاء عصبة الأمم، التي قامت بدورها بتحميل ألمانيا خطيئة الحرب، وإلزامها بدفع التعويضات للمتضررين (المنتصرين).
شكّلت الذلّة الكبرى التي مُنيت بها ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى الرافعة الأكبر للنازية الألمانية للتحكم بزمام الأمور، والصعود في سبيل استرداد الكرامة المسلوبة.

المشهد الثاني:
اليوم: السبت 22 يونيو 1940.
الأجواء: عمرُ الحرب العالميّة الثانية الآن 9 شهور و22 يوما.. احتلّ هتلر بولندا شرقاً، وهولندا وبلجيكا وأراضي فرنسا الشمالية، غرباً.
المكان: ذات العربة! (عربة القطار المنفصلة) في كومبيين- فرنسا.
الحضور: الوفد الألماني وعلى رأسه أدولف هتلر، والوفد الفرنسي الذي ترأسه هنري بيتان قائد معركة فردان.
الحدث: توقيع اتفاق استسلام فرنسا لصالح ألمانيا.

لو أعطى ديجول أي اهتمامٍ لتلك الأصوات التي طالبته بالتفاوض والتصالح مع مشروع بيتان الانهزامي، لكان فريق باريس سان جيرمان ينافس حالياً في البوندسليغا! الدوري الألماني لكرة القدم.

دأبَ هتلر المحمّل بإرثٍ ثقيلٍ، وآمالٍ جسام- على استخدام أسلوب الهجمات الاستباقية في حملاته التوسّعية، وعلى استخدام القوة الناريّة الكثيفة التي لا تبقي ولا تذر. فبعد ما مُنيت هولندا وبلجيكا بهزيمة ساحقة ودمار شديد على يد القوات الألمانية وأعلنتا استسلامهما، وبعد بِدْءِ القوات الألمانية الزحف نحو الخطوط الفرنسية الأولى التي انهارت بالفعل، نَمَا في مطبخ القرار الفرنسي تيار بقيادة الجنرال هنري بيتان يدعو لاستسلام فرنسا أمام الجيش الألماني الزاحف، إلا أن رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك رينود ووزير دفاعه شارل ديجول؛ أرادا متابعة القتال.

قاوم الفرنسيّون. لكنّ شدة الضربات الألمانية من جهة، وإعلان إيطاليا الفاشية الحرب على فرنسا من جهة أخرى، ساهما في انهيار الجيش الفرنسي بعدما خسر أكثر من 100 ألف جندي، وأكثر من مليون أسير.. هرب ملايين الفرنسيين من باريس ودخلتها ألمانيا دون قتال، ورفع العلم النازي على برج إيفل.. تحدّث حينها بيتان للشعب عن أنه يسعى لهدنة مع الألمان حقناً للدماء.. نزل الشعب للشوارع مفوّضاً إياه بتسلم زمام الأمور.. هربت الحكومة الفرنسية لبريطانيا.. ووقّع بيتان اتفاق الاستسلام.. وأصبحت السيطرة في فرنسا لألمانيا شمالاً، ولإيطاليا على الأراضي الجنوبية الشرقية، ولحكومة بيتان في فيشي الفرنسية على المتبقي.

حاك بيتان المشهد السياسي والشعبي بعناية فائقة، مستنداً على تاريخه البطولي في الحرب العالمية الأولى، ونجح بانتزاع كامل الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية من برلمان فرنسا آنذاك، وأجبر القادة العسكريين على قسم الولاء له، وحاز على دعم الاحتلال الألماني بموجب اتفاقيات عمل مشترك ودعم متبادل، واستبدل شعار الثورة الفرنسية (حرية، مساواة، أخوة) إلى (العمل، الأسرة)، وأطاح بالدستور القديم واستبدله بآخر.

بنى بيتان في فيشي دولة ظلمٍ مكتملة الأركان، فنظام الحكم ديكتاتوري.. والكلمة العليا للإقطاعيين والطبقة البرجوازية.. والعمل الذي يقصده في شعار الدولة هو العمل لصالح الاحتلال الألماني.. وبقايا الدولة التي قبل بها كانت منزوعة السلاح الثقيل والسيادة، وسلاحها كان لقمع من تحكُمهم من الشعب.. والانتخابات معطّلة.. والأحزاب السياسية محظورة.. واستخدم الدين والكنيسة كأداة دعم وتشريع لنظامه.. وتعاون أمنيا مع الاحتلال بتسليم جميع غير المرغوب فيهم لألمانيا.. بل وأجبرته ألمانيا على دفع مبلغٍ يوميّ كتعويضٍ لتكاليف الاحتلال! كل هذا كان تحت مبرّرات الحفاظ على استقلال وسلامة ما تبقى من فرنسا!
 

قد تختلف التفاصيل.. إلا أن الذي جعل مشروع بيتان زبداً يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ ما يجعل مشروع السلطة الفلسطينية كذلك.. وإننا نترقب اليوم الذي يذهب فيه هذا المشروع جُفَــاء بفعل الأحرار.

لم يصْفُ الجوّ تماماً لبيتان، فقد كان شارل ديجول لا يزال منذ يوم الاستسلام الأول، يخاطب الشعب من بريطانيا عبر BBC متحدثاً بأننا كفرنسا خسرنا معركة ولم نخسر الحرب، وبأننا لا بد وأن نعمل على تحرير كامل التراب الفرنسي من الاحتلال الألماني، وبالفعل بدأ بتدريب جيش صغير أسماه القوات المسلحة الفرنسية الحرة، وبدأت أيضاً الخلايا الثائرة تتحرك بفعل مضادٍ لبيتان من داخل فيشي كردّ فعل على الظلم المتصاعد بحقّهم حتى تطوّرت إلى حربٍ أهلية بين الفرنسيين الرافضين لحكم بيتان، وبين ميليشيات فيشي وقوات الغيستابو (الشرطة السريّة الألمانية – ذات الصلاحيات المطلقة والوحشية الهائلة)..

هيّأت هذه الحرب الأهلية الأجواء للحلفاء للقيام بالإنزال الأشهر في الحرب العالمية الثانية (إنزال نورماندي)، الذي قضى على الاحتلال الألماني لفرنسا، وعاد على إثره ديجول من المنفى وشكل حكومة فرنسا الحرّة التي ألغتْ دولة فيشي. وحكمتْ على بيتان وكبير مساعديه بيير لافال؛ بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى..

لم يحالفني الحظّ حقيقةً بالتعرّف على موقف ديجول من الأصوات التي من المؤكد أنها صدحتْ مطالبةً إيّاه بالتفاوض والتصالح مع مشروع بيتان الانهزامي، ومن الأصوات التي لعنته وبيتان تحت مبررات (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها)، إلا أن ما هو أكيدٌ لديّ: أنه لو أعطى ديجول أي اهتمامٍ لتلك الأصوات، لكان فريق باريس سان جيرمان ينافس حالياً في البوندسليغا! (الدوري الألماني لكرة القدم).

المشهد الثالث والأخير:
اليوم: اليوم
المكان: 22 بالمائة من أرض فلسطين.
الأجواء: احتلال مكتمل الأركان قد بلغ من العمر 69 عاماً.. كان لنا معه صولات وجولات عديدة.. كسرنا أنفه أحيانا.. وتألمنا من جرائمه أحياناً أخرى.. لكننا استطعنا المواصلة واستساغة هذه الآلام جميعها، إلا الألم المتمثل بسماحنا له أن يصنع من بيننا عدداً لا بأس به من بيتان.. الذين صنعوا دويلة الظلم المنقوصة التي لا صوت فيها إلا للحركة الواحدة، ولا سلاح فيها إلا السلاح الموجه لصدورنا، ولا دين إلا الدين الذي يصورّهم أولياء نعمة وأمر الشعب، ولا رواتب إلا مقابل الولاء.. والمقاومة عبث حرام، والمحتل جار ودود، واعتراف الأمم المتحدة أقصى الأماني..

قد تختلف التفاصيل.. إلا أن الذي جعل مشروع بيتان (زبداً) يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ ما يجعل مشروع السلطة الفلسطينية كذلك.. وإننا نترقب اليوم الذي يذهب فيه هذا المشروع جُفَــاء بفعل الأحرار..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.