شعار قسم مدونات

نيام إلى الأبد

blogs - أطفال سورية
من أطال بنومنا حتى القيامة؟ أنا طفل من خان شيخون نائم على طرقاتكم وأمام أبوابكم، نمت على صوت أمي ولم أستيقظ بعد أن ملأت رئتي غازات السموم التي انبعثت من مدافعهم وتخاذلكم.. تحجب عني رؤية أهلي المرميين على جوانب الطرقات.. السموم التي سلبت عني اليُتم الذي كان سيلحق بي!

الموت بالنسبة إلي لم يعد غريباً، فقد رأيته في عيون أصدقائي، وأراه كل يوم يلهو معنا في الطرقات ثم يدعنا نعود إلى بيوتنا حتى موعد آخر، لكنني لم أخل أنني سألقاه خلال نومي ليهاجمني كحلم امتد نحو الحقيقة.

من ذا الذي أطال بنومي حتى القيامة ليسلب مني لحظاتي القادمة التي كنت أرسم على جدرانها أحلامي بتفاصيل ملونة غير تلك التي عشناها بلون واحد منذ أن بدأ الموت يتخطف من نحب.. ليسلب مني حتى لحظة فرح كنت خبأتها لقادم الأيام حين نعود إلى بيتنا المدمر نصفه والذي بات أطلالاً في الذاكرة.. لا أذكر من بيتنا سوى غرفتي، وبعض تفاصيل يكررها أبي كل يوم..

كنت أحلم باليوم الذي تنتهي فيه المحنة والأزمة لأعود إلى فراشي.. إلى بيتي، حيث كل أم في هذا العالم تذهب مع صغيرها تربت على رأسه وتحكي له حكاية ما قبل النوم، أما أنا ففي كل نزوح لي فراش، وغالباً ما تكون الأرض فراشي، وحكايات المساء بالنسبة إلي هي تمتمات أمي المرتجفة وهي ترقب أصوات القذائف المنصبة حولنا.

اختارنا الله أن نكون طيوراً في عليين، بعيداً عن ظلم البشر.. رحلنا نحو السماء لنخبر الله بكل شيء.. ولكننا سنبقى في أرضنا، ولو أراد لنا القاتل أن نكون نياماً إلى الأبد.

من ذا الذي أطال بنومي حتى القيامة ليغيب عني الوطن الذي لم أعرفه في كتب التربية القومية، ولكنني عرفته عن قرب من خلال المحنة.. قبل سنوات لم يكن الوطن بالنسبة إلي سوى ذلك الحي الذي ألهو فيه مع أصحابي، ثم غدا الوطن بالنسبة إلي تلك المساحة التي تضم ملايين الأطفال المحرومين من الأمان والحياة مثلي، ومنذ اللحظة بات الوطن بالنسبة إلي هو الأفق الفسيح نحو السماء حيث أرواحنا طيور تحلق في رحاب الفضاء بعيداً عن أجسادنا المخنوقة بغازات خذلان القريب قبل البعيد.

أنا طفل من خان شيخون، أبكيتكم وما ذرفت لي دمعة.. أنا امتداد جيل ولد في المحنة أو على أعتابها، جيل لم يبدأ اليوم، ولن ينتهي اليوم كذلك حتى لو خنقتوه ألف مرة.. فأجسادنا ستبقى تراب الأرض، وأرواحنا ستحلق في سمائكم تقض مضاجعكم، وتزعجكم في كل لحظة.

أنا لست وحيداً، أنا جيل ممتد.. أنا حمزة الخطيب، وليال عسكر، ولجين ومئات آلاف الأطفال الذين خطفهم الموت بصور متعددة صنعها العالم أو شارك في صنعها صمتاً وتخاذلاً.. وكنتم عليها شهوداً والسماء ترقبكم.

لعل الحكمة اختارت أن لم يعد لنا مكان في عالم مختل الموازين، جائر الأحكام، فالأرض ضاقت ببراءة طفولتنا وبعدالة قضيتنا، وبحقنا في الحياة، فاختارنا الله أن نكون طيوراً في عليين، بعيداً عن ظلم البشر ووحشية الآلة الطاغية التي سلبت منا أحلامنا ووطننا.. رحلنا نحو السماء لنخبر الله بكل شيء.. ولكننا سنبقى في أرضنا، ولو أراد لنا القاتل أن نكون نياماً إلى الأبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.