شعار قسم مدونات

ما بين سليماني و"سوبر ماني" ضاعت أشياء كثيرة

Iranian Revolutionary Guard Commander Qassem Soleimani uses a walkie-talkie at the frontline during offensive operations against Islamic State militants in the town of Tal Ksaiba in Salahuddin province March 8, 2015. Picture taken March 8, 2015. REUTERS/Stringer (IRAQ - Tags: CIVIL UNREST CONFLICT POLITICS)
 
 

بتعجب تكتب صديقتي فرح الزمان عن قاسم سليماني عندما شاهدته عياناً في مسيرة يوم القدس في قلب طهران: ليس كما تخيلته فهو "ضئيل الجسم".. كنت أظنه أضخم بكثير. وإذا كان الذهن العربي عموماً قد أبدى ميلاً جارفاً لتضخيم صورة سليماني، فإن ذهن السياسي العربي وقف عاجزاً عن الفهم والحل.

 

تؤشر "أسطرة سليماني" إلى ضعف عربي واضح وهي في الوقت ذاته، حاجة إيرانية خالصة لمواكبة الظروف التي نشأت عقب احتلال العراق، وتلك الحالة الرخوة التي دخلت الأمة فيها وسمحت ببدء التوسع الإيراني في المنطقة، ليصل إلى الحدود التي نراها اليوم في سوريا ودول عربية أخرى.

 

وجد صنّاع القرار في إيران سليماني في صيغته الأسطورية وصفة مناسبة للحالة العربية، فهو يوجد في المنطقة منذ زمن طويل ويتحدث العربية، وله علاقات قوية بقادة حزب الله وحماس والجهاد.. ويملك من القوة أن ينهر قادة حماس غاضباً من تصريحات د. أبو مرزوق بشأن الموقف من إيران.

وأسطرة سليماني صيغة مهمة لمخاطبة الداخل الإيراني وتبرير التدخل في المنطقة العربية على وجه الخصوص، فهو بالنسبة للمتدينين الحامي لمقام السيدة زينب والمجابه لإسرائيل والداعم للمقاومة في فلسطين وأطراف فلسطين، أما بالنسبة لأصحاب التوجه القومي وأولئك الذين لا يؤمنون بالجمهورية الإسلامية أصلاً، فهو الذي يقاتل في جبهات تغص بـ"التكفيريين حملة السيوف المقنعين" الذين "يتربصون للانقضاض على إيران" ويقف سليماني ورفاقه سداً أمام خطرهم.

 

أسطرة الشخصيات صفة عميقة ملازمة للشخصية الإيرانية، "حتى في الشعر نجد مثلًا شخصيات أسطورية مثل: رستم وعائلته وإسفنديار، وكثيرًا ما ترد مفردة "قهرمان" وتعني البطل في أحاديث الإيرانيين

أسطرة سليماني ضرورة لبناء صورة إيران "القادرة" داخليًّا وخارجيًّا، بدلًا من الضعيفة المحاصرة، داخليًّا حتى بالنسبة للشباب الذين وإن كانوا قد باتوا في قطيعة شبه كاملة مع الجيل الأول والثاني للثورة وطروحاتها، إلا أنهم مسكونون بـ"التفوق الإيراني" وصورة سليماني تغذِّي لديهم هذا الحس وهو ما يلاحظ بقوة في المدونات الشبابية، وهو نفسه ما يجعل شابة قد تعنفها شرطة الإرشاد على "لباسها الخارج عن قيود الشرع"، تضع صورة سليماني على صدرها وهي في كامل تبرجها، وربما يكون السبب نفسه الذي يجعل روائيا ليبرالياً معروفاً هو محمود دولت آبادي، مارس هجاء للعسكر في  روايته الشهيرة الكولونيل يمجد سليماني ويمدح أفعاله.

 

أسطرة الشخصيات صفة عميقة ملازمة للشخصية الإيرانية، "حتى في الشعر نجد مثلًا شخصيات أسطورية مثل: رستم وعائلته وإسفنديار وغيرها من الشخصيات الأسطورية التي تغصّ بها شاهنامة الفردوسي، وكثيرًا ما ترد مفردة "قهرمان" وتعني البطل في أحاديث الإيرانيين اليومية، وفي الأدب الإيراني تجد الكثير من القصص التي تتحدث عن وراثة البطولة كابراً عن كابر. والحال ينسحب على البعد العقائدي حيث أعطيت صفات أسطورية على الشخصيات التي رافقت الإمام الحسين يوم استشهاده، وهو ما نجده أيضا في أسطرة الذين قادوا المعارك في الحرب العراقية الإيرانية، ومنهم سليماني والجنرال حسين همداني الذي قتل في سوريا، ووثق لتدخُّل إيران فيها من خلال مذكراته التي نشرت بعد وفاته وحملت عنوانا أدبيا خالصاً هو "رسائل الأسماك".

 

لم تنشأ هذه الأسطورة بشكل عفوي، فمنذ أن نجح الجنرال محسن رضائي بعد توليه قيادة الحرس الثوري، في تحويل تلك المجموعات الثورية إلى مؤسسة، وهي لا تُدار بشخص الأسطورة، بل تعتمد المؤسسية والتخصص وفيها خبراء في الاقتصاد والسياسة وعلم النفس والاجتماع، لكن بناء صورة سليماني يأتي جزءا من العمل الدعائي للمؤسسة، ويتم ذلك وفق عملية مدروسة تخاطب الإيرانيين بطرق مختلفة وأساليب توافق الحالة، فتختار شكل وأوقات ظهور الرجل. وصناعة القرار في هذه المؤسسة يشترك فيها سليماني وقادة الحرس الباقون، لكنه بالتأكيد صاحب كلمة ونفوذ كبير في ملفات أمنية مثل: سوريا والعراق وفلسطين.

 

بين الفعل واللا فعل، الواقع والأسطورة، الصورة وانعكاساتها، هبت أمواج عاتية من "الإفك السياسي" وأبيدت حاضرة عربية تلو أخرى، وأصبح لبغداد والموصل ودمشق وصنعاء وجوه غريبة لا تشبهها، كأقنعة فرضت بالإكراه

قبل مدة وفيما كانت المواقع العربية تتحدث عن خلافات حادة بين جواد ظريف وسليماني على ملف السياسة الخارجية، قرأت مقابلة مع ظريف أجراها موقع انتخاب الإيراني، وعندما سئل عن سليماني قال: لدي ارتباط وثيق بالجنرال سليماني منذ 20 عاماً وفي مختلف العمليات التفاوضية المتعلقة بالعراق قبل وبعد احتلاله وكذلك التفاوض بشأن أفغانستان كان لدي عمل مشترك مع الجنرال.. وكان لدي تفاهم كامل معه.. أعتقد أن أننا جميعا كوادر بناء لهذا النظام ونحتاج أن نكون متحدين، أنا والأصدقاء ومن بينهم الجنرال سليماني قد يكون لدينا اختلاف في وجهات النظر، لكننا استطعنا القيام بالفعل المناسب في سوريا.. في المفاوضات الثلاثية كان لدينا تنسيق جيد، وفي كل العمليات التفاوضية استطعنا أن ندفع بمصالح بلدنا إلى الأمام.

 

خارجيًّا تبدو هذه الأسطرة ضرورة لبناء منظومة النفوذ الإيرانية، في بيئة باتت ضعيفة ورخوة كالبيئة العربية. وكما الصورة وأسطرة الصورة ضرورة لإيران فهي ضرورة لحلفائها، لإيران لبناء صورة الدولة "القادرة"، ولحلفائها لبناء صورة إيران "الحامية".

 

وبين الفعل واللا فعل، الواقع والأسطورة، الصورة وانعكاساتها، هبت أمواج عاتية من "الإفك السياسي" وأبيدت حاضرة عربية تلو أخرى، وأصبح لبغداد والموصل ودمشق وصنعاء وجوه غريبة لا تشبهها، كأقنعة فرضت بالإكراه، فيما وقفنا عراة نراقب ببله وضع القناع ونساهم في صنع الأسطورة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.