شعار قسم مدونات

أمهات من المَنفَى

blogs - الأم و ابنتها

"في صبيحةِ يوم مشرق من أيام الأسبوع، وبعد أن جهزت ابنتي لذهابهن للمدرسة وتوصيتهن بالنشرة الصباحية من إنهاء السندوتشات والتركيز أثناء الامتحان لحصولهم على المركز الأول وأن لا أقبل بأقل من ذلك. هززن رأسهن برتابة لموافقتهن لكلماتي وعلى وجههن ابتسامتهن الهادئة وانصرفن..  وبينما أحتسي كوب القهوة لأستعيد نشاطي إلا أن هاتفي أَبَى أن يستمر الهدوء لدقائق معدودات.. وإذ بإدارة المدرسة تبلغني بضرورة حضوري إلى المدرسة.. ذهبت مسرعة وكأن الدنيا قد أغلقت أبوابها أمام عيني تُرى ماذا حدث هل أصاب بناتي سوءاً.. هل اعتدى عليهما أحداً.. هل انهارت ابنتي الكبرى لعدم حصولها على الدرجة النهائية في الامتحان هل.. وهل.. وهل.. 

وظلت التساؤلات تتطاير في ذهني إلى أن وصلت إلى باب المدرسة وكان صبري قد نفذ.. بضع دقائق وجاءت إلى مبتسمة الأخصائية السلوكية، انهلت عليها بالأسئلة فقالت بهدوء على رِسلْك ابنتيك بخير والحمد لله ولكنى أردت أن أطلعك على بعض التغيرات السلوكية التي طرأت عليهن ونضع حلول سوياً لبعض المشكلات.. تنفست الصعداء وقلت لها "قلقتونى.. إن كان كدا ماشي تفضلي.. "

بدأت المعلمة في التحدث على سلوكهن بشكل عام والصفات الإيجابية ونقاط القوة التي تميزهم ثم قالت "ولكن… ابنتك الكبرى ذات ال12 عامً لوحظ عليها منذ بداية العام الدراسي الثاني سرعة الغضب والرد على المعلمات بأسلوب غير لائق وتعمد مضايقة زميلاتها وقد تم لفت انتباهها أكثر من مرة ولكنها اليوم قامت بنفس الفعل مما أدى لطردها من الحصة أثناء الامتحان" "أما ابنتك الصغرى ذات ال10 أعواماً فقد لاحظت المعلمات عليها أخذ الأشياء من حقائب زميلاتها بدون إذن وهكذا من حقائب المعلمات وقد تم التحقيق في ذلك والتثبت منه.. ولقد أرسلنا إليك لنطلعك على الأمر ونتشارك في عمل خطة علاجية لكلتاهما.
 

متى نعترف أننا كبشر من المتوقع أن نخطأ وفى بعض الأوقات لا نتعلم إلا بالخطأ وأن هناك مراحل عمرية يمر بها أبنائنا ولكل منها خصائص ومشكلات فيسهل علينا معرفة طبيعة المرحلة والتعامل معها.. وهل اعترافنا بوجود مشكلة يعنى اعترافنا بمرض طفلنا النفسي

لم أستطع تحمل ما أسمع.. وصرخت في المعلمة يكفي هذا من أنت لتحكمي على بناتي بالسرقة والأخرى بأنها غير مهذبة يكفي هذه الافتراءات وتتمي الأمر بالطلب منى وضع خطة علاجية ينقصك أن تقولي أن بناتي مرضى نفسين ويلزمنا الذهاب لطبيب نفسي ألم تعلمي يا أستاذة أن بناتي كرموا العام الماضي في مسابقة الأخلاق. ألم تسمعي عن بناتي من قبل.. أسألى عنهم إن كنتِ لا تعلميهن ولكن من الظاهر أنكِ جديدة هنا ولا أستطيع تضيع وقتي معكِ أكثر من ذلك. ثم انصرفت وبداخلي قدر من الغضب لو وزع على أهل الأرض لكفاهم …! كانت كلمات المعلمة تتردد على أذني في كل لحظة تُرى هل فعلتَ ابنتي ذلك حقاً!؟ ولكن إن كانوا فعلوا فكيف سأواجه أباهم الذي استودعهم عندي وسافر.. كيف سأعترف بفشلي في تربيتهم لا يمكن أن بناتي يفعلوا هذا من المستحيل.. وخدرت ضميري واستغرقت ف النوم.. "

هذا مثال لكل موقف نتجاهل فيه اعترافنا بالحقيقة لعدم قدرتنا على المواجهة أو عدم السماح لأنفسنا أو أبنائنا بقدر من الخطأ.. في كل موقف نزيد من وضع البراويز حول أبنائنا لننظر لهم كما نتمنى أن نراهم في خيالنا بعيداً عن واقعهم فإننا في الحقيقة نأخذ أنفسنا في رحلة بعيدة عنهم إلى المنفى…! وفى لحظة صدق مع النفس نكتشف الفجوة التي صارت بيننا ولا نعلم متى حدثت هل يلزمنا الوقوع لنستفيق ألا يكفينا الضوء الأحمر القادم من بعيد لينبهنا. كم يلزمنا من العمر وتدمير فطرة البشر لنخرج خارج بلورة المثالية التي نضع فيها أنفسنا وأبنائنا..

متى نعترف أننا كبشر من المتوقع أن نخطئ وفى بعض الأوقات لا نتعلم إلا بالخطأ وأن هناك مراحل عمرية يمر بها أبنائنا ولكل منها خصائص ومشكلات فيسهل علينا معرفة طبيعة المرحلة والتعامل معها.. وهل اعترافنا بوجود مشكلة يعنى اعترافنا بمرض طفلنا النفسي…! ولنفترض أن المشكلة أُهملت إلى أن سببت اضطراب أدى لمرض نفسي فهل غض الطرف عن المشكلة وتجاهلها هو الحل الأمثل لها…!

يا مُربين عودوا من منفاكم واهبطوا على كوكب أبنائكم واتركوا مساحةً لتقبل أخطائهم ومشاكلهم لتروا واقعهم بعيونهم وليس بعيونكم.. فهم أحوج ما يكون لسماعهم وفهمهم ومشاركتهم الحلول ولتهدموا أصنام المثالية لِتُنشِئوا للأمة جيلاً صالحاً سوياً نفسياً.. وأخيراً فإن الله قد استودع عندكم أبنائكم وعند استرداد ودائعه لن يحاسبكم على تعليمهم ومأكلهم ومشربهم وملبسهم فقط ولكن على دينهم وقلبهم وأخلاقهم. فالله .. الله فى أبنائكم "فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.