شعار قسم مدونات

لم يحبنا العالم (1)

blogs - ريحانة جباري
أكان لابد أن تنكأي الجرح يا ريحانة؟ نحن نعيش في خضم كراهية العالم ونواجه عبوسه في وجوهنا يوميا ولا هو يلتفت حتى لزفيرنا المتصاعد بصهد من حلوقنا على طول طرقاته، كي يعيد النظر في ثقله فوق قلوبنا ولو لبعض الوقت. إذا كنت لا تعرف من هي ريحانة فابحث أولا عن اسم "ريحانة جباري" في محركات البحث واستمع إلى تسجيل لرسالتها الأخيرة كي تشعر بطرقها المستمر فوق رأسك أينما وليت.

لم تترك لي ريحانة الكثير لأقوله بعد رسالتها؛ ولكن ربما تبقى بعض حديث مضطرب مهزوم في حلقي يريد أن يفر كي لا أختنق.. فهل أحدثكم أولا كيف لم يحب العالم بلادي؟ مصابون نحن كمصريين باضطراب نفسي لم أعثر بعلمي الضئيل على كنهه، أراه فقط في كل ما دار ويدور بنا. أراه في ست سنوات من الخذلان أعقبن عام نصر واحد، ما الذي نصرنا؟ كانت الباقية، الحرية، تعلقنا بها فأبقتنا، وعندما تشتتنا بين الفانين أفنونا ومازلنا نفنى بخطوات لا تقل في ثقلها عن خطوات النصر؛ ولكنها تنتهي حيث لا مآل سوى الكمد واتساع دائرة الدم.

هذا البلد ترك فينا اضطرابا قاهرا، يجعلنا نعيش الكارثة دائما، يجعل من أوشك على الموت متحيرا لا يعلم هل يتشبث ليعود أم يستقر في ظل جناح ملك الموت ويستسلم بهدوء! اضطراب تراه عند مشاهدتك الأخبار المحملة بالفاجعة دوما، في تخيلك ﻵخر مشهد في حياة الضحايا، أحدهم يضرب بيديه الماء كي لا يغرق وفي نفس اللحظة لا يعلم فائدة ذلك، يصرخ عند انقلاب الحافلة صرخة فطرية؛ ولكن في جوفه "تأتأة" ماذا سأفعل بالنجاة إذا كان الموت محتما في كل قرار أو حلم أو درب أخطوه على هذه الأرض؟ يغتم المريض إذا زاد سعر الدواء وفي قرارة نفسه يعلم أن دواء بلده مغشوش لا يشفي تماما حتى وإن ابتاعه بالذهب.

نحن نجرب النجاة ذاتيا بشكل يومي ولا ننجح غالبا؛ فكيف ينجينا كره من ظلم؟ في بلادنا فقط تعود سترات النجاة خالية وسليمة إلى الشاطئ، ولا تزال صالحة للاستعمال الأول. لا تعنفونا إن استشعرنا القهر واليتم فوق هذا التراب كلما وطأته أقدامنا. لم تترك لنا هذه الأرض في الدنيا عشقا، ولم يتبق لي من الأمل في أن تبادلنا السلام سوى أن تضم رفاتنا برفق وتحتضن عظامنا بحنو وحيد أخير طوال مدة إقامتنا في عالم البرزخ، وبقايا محبتنا تجاهها ندخرها لوعد اللقاء بها على حقيقتها الطيبة في الآخرة.

الآن يا ريحانة، أريدك أن تسكني في مثواك، وأعدك بأن جميعنا سيوجه الاتهام أمام محكمة الله؛ حيث لم تمري وحدك هناك من ذلك الشارع؛ فكلنا مررنا ونمر خلاله يوميا لنلقى مغتصبا جديدا في نهايته

تمنيت لو أن هناك من يخبرني بأن حديثي يحوي افتراء أو مبالغ في سواده، ولكن مؤخرا حدث ما وأد تلك الأمنية.. أعمل تطوعا لدى إحدى المنظمات التي تعد قوافل طبية تستهدف القرى الفقيرة بصعيد مصر بشكل أسبوعي، وخلال القافلة قبل الأخيرة كنت أحاول طمأنة سيدة تشارف على الثمانين لخوفها من أن تظهر تحاليلها داء عضال اختبأ كل تلك السنوات ليفاجئها الآن ويفسد عليها أيامها الأخيرة في الحياة ويمنعها أن تقضيها بسلام، وبينما أحاول الصمود والسيطرة على مشاعري أمامها وأمام أناس يعيشون خارج حسابات الآدمية وحدود الزمن واهتمامات الدولة، ووسط كل هذا القهر والفقر ورؤيتنا للمرض عينا يحصد رؤوس العباد، إذ بشاب عشريني في أوج صحته ولكنه جاء فقط ليتجول بين المعمل والعيادات ويؤدي بعض الإيحاءات بوجهه وجسمه ليخبرنا أنا وزميلتي برغبته في التحرش بنا وأنه لولا تزاحم المرضى ما كان ليضيع الفرصة أو يتورع عن ذلك أبدا.

وبينما كانت دور النشر وجامعتي تزيدا من اسم أحد الأساتذة في الآثار المصرية وهجا وتلميعا، كان هو يستقطب إحدى الطالبات ليبخ سما في عقلها لتترك دينها وأهلها ويعد فراشه لهتك عرضها، ثم يعود لمتابعة التدريس في اليوم التالي بعد أن تركها معراة من كل شيء على الطريق وذهب لاجترار غيرها، دون أن ينل سوى المزيد من التقدير والألقاب العلمية وكتب أكثر تملأ أرفف المكتبات تحمل اسمه على غلافها.

والفتاة البريئة التي ظل أحد محارمها يتحرش بها لسنوات قبل أن تبلغ من الإدراك ما يفسر ما يفعله بها سوى اعتقادها في كل مرة أنه يريد أن يضع لها الحلوى في جيبها، وعدم يأسها رغم تركه لجيبها خال دائما دون أي حلوى.. تلك الفتاة التي نضجت وشبت على نفس الأمل في أن يكون مقصده القديم هو وعالمه أن يضعوا الحلوى في جيبها وليس ما أدركته فيما بعد من خبرتها في شوارع بلادها ومواصلاتها العامة، ولا ما رأته فيمن يدعون المحبة فقط لوضع الحلوى في جيوب المحصنات.

لدي من القصص ما يكفي لإطفاء باريس حزنا، ولا يمنعني عنها سوى قسمي أمام الله على إخفائها سترا لأصحابها ورحمة لـ"الحكواتي" بداخلي أن يصاب بالسكتة فأفقد خيط النور الأخير الذي يلمع في عيني بدهشة الحكايات. فأي عالم هذا الذي يحبنا؟! أين الإنسانية التي تحدثوننا عنها وكأنها حاضرة بقوة ونحن فقط العميان المتشائمون؟

إلى كل شعلة على هذه الأرض، لم يتبق من أمنياتي سوى أن يدع العالم نورك وشأنه ويدوم ضياؤك في سلام دون محاولات أخرى لإطفائك. إلى شعلتي الوحيدة في هذا الكون، إلى أمي.

والآن يا ريحانة، أريدك أن تسكني في مثواك، وأعدك بأن جميعنا سيوجه الاتهام أمام محكمة الله؛ حيث لم تمري وحدك هناك من ذلك الشارع؛ فكلنا مررنا ونمر خلاله يوميا لنلقى مغتصبا جديدا في نهايته، وكل يغتصبنا على طريقته، سواء يغتصب جسدا أو روحا أو قلبا أو حلما أو حقا لنا في الحياة.. والعالم مليء بالقاضي شاملو وسجانيك وهيئة المحلفين.

أبكي الآن لأني تذكرت، وأدعو الله أن يغفر لي تلك الذكرى، حيث مر بي من يأس قاتم في أحد اختبارات الحياة القاسية ما جعل الشيء الوحيد الفاصل المتبقي بيني وبين الانتحار هو حرمانيته، كنت وقتها أتمنى لو يفصلني عنه أيضا حبي للحياة؛ ولكني للأسف لم يعد لدي يقين كاف بأن سيدعني العالم وشأني بهذا الحب والإقدام كي أقوى على المغامرة بقلب جريء من جديد.. ومثلي كثيرات. أذكر زينب مهدي، وريحانة وخيرة زهور وشباب الأرض، فأشهق من البكاء أكثر… لنا الله وحده وكفى به أملا لا ينتهي وملجأ وملاذا، والحمد له وحده على انتشالنا من ظلمات هذا الكون إلى قبس من نوره يعيننا ببعض الصبر على المضي قدما. وهو القاهر فوق عباده، وليس بغافل عما يعمل الظالمون.

يا حضرة العالم أقسم لك نحن نحاول أن نبادلك بعض السلام والبراءة فقط؛ فاعطنا من فضلك وفضل قاطنيك فسحة لهم أو حتى فسحة أمل في وجودهم!

وأخيرا.. إلى عزيزتي شعلة، وإلى كل شعلة على هذه الأرض، لم يتبق من أمنياتي سوى أن يدع العالم نورك وشأنه ويدوم ضياؤك في سلام دون محاولات أخرى لإطفائك. إلى شعلتي الوحيدة في هذا الكون، إلى أمي… أحبك جدا، وأرجو أن تسامحيني على إقبالي على الحياة بجرأة ورعونة وسذاجة لم يتركن لك خلفهن إلا الألم والمعاناة. لم يعد يشغلني إن دام انطفائي وازداد ذبولي أو زال، فقط يشغلني أن تظلي في أوج وهجك دائما؛ حتى إني أصبحت أهاب الموت فقط لأنك ستتألمين أكثر، فأتوسل إليك ألا تبكي أو تتألمي أبدا.. أو بالأحرى ألا تبكي وتتألمي مجددا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.