شعار قسم مدونات

الجوع والركوع على عتبات العجز والخنوع

blogs العمل الخيري

هل شعرت بزفرات الجوع وآلامه تجتاح قلبك وعقلك، وتعتصر جوفك إلى حد البكاء والجنون، هل جربت مُر الفقر والاحتياج، وعذاب الانتظار، هل جربت أن تقتات بضعاً من أوراق الشجر والحشائش، وفُتات الطعام المعجونة بالرمال لتملأ بها جوفك المعجون بالعجز والحرمان. إنه سلاحهم الأول الذي يعتمدون عليه في إذلال الشعوب، وشراء حِبال حناجرهم المُتقطعة، الجوع الذي يجعل جزءاً من جسدنا النازف يبحث بكل صبرٍ ورضا في خشاش الأرض الحزينة، وصناديق القمامة المُترامية كهمومنا بين الضلوع على قارعة الطرق، الجوع الذي جعل الناس تتهافت على أرغفة الخبز الحاف المغموسة بزفرات الأنين المكتوم، كما لو أنها تتهافت على أشهى أنواع اللحم وسط نبيح الكلاب وعِواء القطط. 

الجوع الذي نحت تعاريجه الغليظة في وجوه الناس وجِباههم، وأكُفهم الهزيلة وأعينهم الشريدة، الجوع الذي جعل الناس تركع على عتبات الخوف والصمت والعجز والخنوع، الجوع الذي يكوي عظام وأفئدة البسطاء الذين لا حيلة لهم إلا بربهم، فهو حولهم وقوتهم وناصرهم. أصبحنا في أوطانٍ مصابة بداء التبلد، والخرس والصمت المهين، نسمع همهمة الألسن المحرومة، نشاهد ضلوع العجزة المحنية، نجوب بين ثنايا تجاعيدهم الباكية، ونستشعر نحيب أرواحهم، ثم نُكمل المسير في طريق الحياة الطويل، نشاهد الأشلاء والأطراف المبتورة تروي ظمأ الأرض، وأدخنة القصف المأجورة تتصاعد، نرى الأطفال والجوع ينهش في أجسادهم الصغيرة نراهم يموتون جوعاً وعطشاً في سوريا واليمن والعراق وليبيا ، نرى الجوع مكسواً عظاماً ولحماً في أبشع صوره، ونشاهد سماسرة الموت هنا وهناك ولا نتحرك ساكناً.

نرى ونسمع ولا نتأثر سوى بضع دقائق لأجل حفظ ماء وجوهنا، وتخدير نبض ضمائرنا الخافت، نعم لقد اعتدنا العجز والتيه والحرمان والهوان، والسير بخنوع في دروب الذل والاستسلام، لم يصبح شيء يثير دهشتنا، أصبحنا نسير على حد السكين، دون أن يرف لنا جفن، أو تسقط لنا دمعة، أو تتحرر من صدورنا كلمة، نسكُب العبرات على حالنا، دون أن نغير شيئاً. نعلم عدونا جيداً، ونتعامل معه على الوجه الأمثل لكل صور الذل والخنوع، نعلن تنديداً ماسخاً مكتوف الأيدي بسلاسل من المصالح، ثم نعقد فصول المسرحيات الهزلية على شاشات التلفاز، ثم نختلف حول من سيكتب كلمة البداية بالدماء الحرة؟! ومن سيُسدل الستار بالاستعمار؟!.

آه يا وطن لو تعلم كم من وجوه حفر اليأس خطوطه في تقاسيمها، وكم من لُحى ذُلت، وكم من عليل أُهين، وكم من سيارة ترحيلات تسري على أرضك حملت من وراء قضبانها الغليظة، حكايا المظلومين جيلاً بعد جيل

أصبحنا جوعى إيمان وحرية وكرامة، أصبحنا جوعى حق وعدالة، وفكر وضمير وإنسانية، ولا يسعنا في النهاية سوى قول الآه في الدعاء والحلم والرجاء ….آه يا وطن لو تعلم كم من ضلوع مُزقت تحت ركام بيوتاً حسبها أصحابها أنها أمنه بعد عمر من الشقاء المنحوت في جدران أفئدتهم، بيوت تعوم على مياه الصرف الصحي، وأخرى تقف متهالكة هزيلة تنتظر اللحظة المناسبة لتتحطم فوق أجساد أنهكها التعب والحلم والرجاء في العيش بآدمية يوماً. 

آه يا وطن لو تعلم كم من حبات رمالك توضأت بدماءٍ طاهرة لم يجنح أصحابها للظلم يوماً، و كم من حادثة أدمت حلماً، وحطمت أملاً، وانتزعت زهراً في ربيعه، وأضاعت ملامح الطريق من أقدامنا الهشة التي تجر ذيول الخيبة والمرار باستمرار.

آه يا وطن لو تعلم كم من وجوه حفر اليأس خطوطه في تقاسيمها، وكم من لُحى ذُلت، وكم من عليل أُهين، وكم من سيارة ترحيلات تسري على أرضك حملت من وراء قضبانها الغليظة، حكايا المظلومين جيلاً بعد جيل.

آه يا وطن لو تعلم كم من خوفٍ سكن قلوبنا، وكم من ظلمٍ استحل دمائنا، وكم من فساد اقتلع بذور أحلامنا وانتهك آدميتنا، لو تعلم يا وطني كيف يستأصلون إنسانيتنا بأيدٍ باردة ؟!، لشفقت على أرواحنا المنهكة، وللفظت حدودك أجسادهم الذليلة التي تُقطر دم الأبرياء.

يعدمون حقوقنا على مشانقهم المُرتعدة، لحظة بعد لحظة، حتى أصبحت صدورنا مكلومة تعج بالألم وتفيض، وعزائمنا مهزومة تبحث عن سبيل للنجاة، ولحافة الوصول يوماً. اسألوا الأرض عن مذاق دمائنا، وأسماك البحار عن طعام أجسادنا، اسألوا السماء عن عناق الأعين البريئة لسحاباتها العابرة في رمقها الأخير، اسألوا صناديق الذاكرة المبعثرة في كل الدروب والأزقة والحارات، والمحفوظة في أركان القلوب، ودفاتر الأحلام البالية، وخطوط الأيدي النحيلة، وتقاسيم الوجوه المُتعبة عن طعم الطفولة المفقود بين أنياب الشر ومخالبه. ولكن رغماً عن شبح الموت الذي يلوح لنا في كل لحظة، لم نعد نخاف حسيسه ورائحته النافذة العالقة بأرواحنا كعرب في كل مكان، بل أصبحنا نهفو إليه في سبيل الحرية الأبدية، فلا وحشة في قبور الأحرار، ولا رحيل ولا موت، وإنما حياة على أعتاب برزخ الحرية. 

هنيئاً لأرواحنا وشلالات دمائنا التي ستُذيب صخور ظلمكم العاتية يوماً، إن الرصاص الذي ينخر الأجساد ما هو إلا سهام من نور تخترق أحشائنا التي اشتاقت لعبير السماء، ورائحة ريحان الجنة، ومِسك الرحيق المختوم، وظل سدرة المنتهى، وإلى أنهار الكوثر والسلسبيل

لن نستسلم إلى دهاليز الخوف واليأس، سنظل حتى الرمق الأخير، نزرع بذور الحرية ونرويها بدمائنا الحرة، سنظل نحفر بأظافرنا الهشة في صخوركم الجاثمة على صدورنا، نسير على الأشواك، ولا يصيبنا منا سوى حلاوة مذاق المبدأ والشرف والكرامة، هذا هو الفرق والنجاة والبقاء، حتى تتسع لنا رُقعة الأرض بما رحبت، وتتفتح نوافذ الأمل في أرواحنا المُمزقة، كفجاج من نور، تشدو في ساحاته أصوات حناجرنا المبحوحة بأنغام الحرية.

ولتتلألأ دموعنا المُنهمرة كالدُرر اللامعة على وجوهنا، وتُدبدب أقدامنا الهشة العارية، كهدير الريح، وليستقيم انحناء ضلوعنا، وتُزهِر عروقهم النافرة وأوردة أجسادنا النحيلة، كالأشجار الباسقة التي تنمو أوراقها وأغصانها اليابسة من جديد، وتُعانق نور الأزهران في السماء، وستتدفق كلماتنا إلى الآذان كخرير ماء المطر الذي يروي ظمأ الأرض.

فهنيئاً لأرواحنا وشلالات دمائنا التي ستُذيب صخور ظلمكم العاتية يوماً، إن الرصاص الذي ينخر الأجساد ما هو إلا سهام من نور تخترق أحشائنا التي اشتاقت لعبير السماء، ورائحة ريحان الجنة، ومِسك الرحيق المختوم، وظل سدرة المنتهى، وإلى أنهار الكوثر والسلسبيل.

قال الله تعالى : "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ
"إنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا"
"يُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا، عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا".  صدق الله العظيم

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.