شعار قسم مدونات

الثورة والشباب وأزمة التنظيمات السياسية فى مصر

blogs - الثورة و الشباب

تقوم الديمقراطية في أحد تجلياتها علي فكرة العلاقة المباشرة بين السلطة والتنظيمات المختلفة التي تشكل المجتمع، بحيث تكون هذه التنظيمات هى العامل الأقوى للفرد في ممارسة حقوقه المدنية، وحرياته العامة، ولذلك يظهر الدور الأكبر للطبقة الوسطي في قيادة هذه التنظيمات نظرا لما تتمتع به _ الطبقة الوسطي _ من استقلالية نسبية من ناحية، مع وجود نصوص دستورية راسخة تسعي لحماية استقلال هذه التنظيمات ضد توغل السلطة واستبدادها بما تمتلكه من أدوات قوة مختلفة من ناحية أخرى، وهذا ما يوضح حجم الدور الهام الذى تمارسه مختلف التنظيمات في الدول التي تتمتع بديمقراطية راسخة. 

تشكلت الدولة العربية الحديثة بنخبتها الحاكمة وشرعنت وجودها، باعتبارها الوريث الشرعي للكيان الكولونيالي الذي خلقته الدول الإمبريالية، وبالتالي مثلت النشأة الاستيرادية في تجربتنا، الكيان الشمولي الذي ينتظر الخطر من كل شيء وكل مكان، ولذا سعت هذه الكيانات إلى إحكام السيطرة على مختلف منافذ الحياة سواء كان من في السلطة مدني أم عسكري، فكل ما في الأمر أن درجات الاستبداد اختلفت في الكم وليس الكيف. ولذلك نشأت الطبقة الوسطي والنخب الثقافية في رعاية السلطة وتحت عينها، حتى تمثل ذراع قوة جديد لها، ولذا افتقدت تلك النخب لاستقلاليتها، ومن ثم تكونت التنظيمات ايضا تحت عين وتصرف السلطة القائمة، وهذا ما ظهر في تبعية شبه كاملة حتى في أقسي درجات المعارضة، بحيث تكبر تحت أعين النظام، وفي الإطار الذي يحدده لها، وإلا فسوف تكون التكلفة باهظة في حال خروجها عن الإطار المحدد.
 

يعتقد ليبيست في نظريته حول الديمقراطية أن وجود الطبقة الوسطي بمثابة الشرط الوجودي لنجاح مرحلة التحول الديمقراطي، فتنظيم أفراد المجتمع في تنظيمات متنوعة تراعي المصالح المختلفة التي يتبني كل فرد الدفاع عنها، هو لب الممارسة الليبرالية

لم تجد معظم التنظيمات السياسية وعلي رأسها جماعة الإخوان المسلمين _ وهي أكبر تنظيم سياسي _ غضاضة في الجلوس مع السلطة قبل أن تقوم الثورة بإزاحة رأس النظام، ثم الدخول في مساومات ومفاوضات مع المجلس العسكري إبان الفترة الانتقالية، فلقد استبطن هذا السلوك أمر ما، وهو أن الدولة هي الأصل، وما نحن إلا تبعا لها في نهاية الأمر حتي وإن جارت علينا فمؤسساتها شريفة وفى القلب دائما ورجالها مثل الذهب مهما بدر منهم، ولذا لم يكن هناك غضاضة في التعامل مع هذا الكيان باعتباره راعي وحامي المشروع الإصلاحي للجماعة وليس مناهض له كما هو في الواقع.

يعتقد ليبيست في نظريته حول الديمقراطية أن وجود الطبقة الوسطي بمثابة الشرط الوجودي لنجاح مرحلة التحول الديمقراطي، فتنظيم أفراد المجتمع في تنظيمات متنوعة تراعي المصالح المختلفة التي يتبني كل فرد الدفاع عنها، هو لب الممارسة الليبرالية، بحيث تجد في نهاية الأمر عدة تنظيمات ممثله لهذه المصالح، وقادرة على الدفاع عنها وفقا لما تتمتع به من استقلالية ونفوذ مجتمعي من جهة، ونصوص دستورية ومؤسسات تدافع عن حقوق ومصالح هذه التنظيمات من جهة ثانية. ولذا تظل أحد أهم أسباب انتكاسة تجربة التحول الديمقراطي في مصر، أنها كانت تعاني من غياب حقيقي لوجود منظمات ذات استقلال فعلي من جهة ثالثة، ووجود مجتمعي متنوع الأطياف يحقق لها قدر من النفوذ والتوازن ضد الدولة العميقة من جهة رابعة.

قال الدكتور عزمي بشارة في أحد حواراته: أن العمل السياسي الحزبي للمثقف العربي لابد أن يكون جزء أساسي من وظيفته، بحيث يكون ترفعه عنه، بمثابة تقصير فعلي، واتساقا مع ما تقدم، فإنني أعترض على هذه المقولة وأري فيها تأخير لمشروع التغيير إذا أخذت على إطلاقها، خاصة في الدول التي تعاني من نظام سلطوي شبه مطلق.

إن الدور الحقيقي الذي تنتظره الشعوب العربية خاصة في أكثر النظم سلطويةً، أن تتخلى عن التعامل مع النظام الحاكم، وأن تتوجه في مشروعها التغييري، نحو بعضها البعض، في محاولة بناء أرضية مشتركة وراسخة من المبادئ التي يمكن معها تحقيق تداول سلمي للسلطة، وحماية للحقوق والحريات، وإعادة الحياة للمجال العام بعد عقود من التأميم، واحترام التعددية في النسيج السياسي والاجتماعي.

لقد أعادت ثورة يناير الحياة مجددا إلى المجال العام بعد عقود من تأميم السلطة له، حيث خلقت مناخ من الحوار والتفاعل الفكري والسياسي بين شباب الثورة المؤدلج منهم وغير المؤدلج، والحزبي والمستقل، ولكن التنظيمات السياسية بمختلف أشكالها، خلقت حالة من العداء المصطنع حول قضايا بالية، أدت في النهاية إلى خلق مناخ من الاستقطاب السياسي والايديولوجي، الذى نتج عنه الفشل في بناء طبقة اجتماعية ثورية قائدة ذات ثقافة سياسية جديدة، ترسخ لقيم الحرية واحترام آراء الآخرين، وتبني نمط علاقة جديد بين السلطة والمجتمع أو الحاكم والمواطن، بحيث تقوم علي إخضاع وهيمنة الأخير علي الأول، تمهيدا لإزاحة الثقافة السياسية الاستبدادية التقليدية التي تقوم علي خضوع المواطن للسلطة في كافة أشكالها وتجلياتها، والتي أهدرت كرامة الإنسان وهدمت ركائز البنيان فاختل معها الميزان وأهدرت فرصة إعادة العمران. 
 

مازال الأمل قائما أن يتم تطوير حوار ثرى بين شباب الطبقة الوسطي، الذى أصبح قادرا على تطوير منظومة من التواصل الإيجابي التي يمكن معها بناء أرضية مشتركة خاصة بالثوابت الكلية والمبادئ الحاكمة التي تقوم على الحرية كقيمة كبرى

لقد تعرضت التنظيمات السياسية التي ساندت انقلاب 3 يوليو إلى حالة أشبه بالتشظي، نتيجة عزوف قطاعات شبابية كبيرة بعيدا عنها، بعد أن فقدوا إيمانهم بما تربوا عليه من قيم، خاصة إذا كان خيانة هذه القيم من ممارسات القادة، وقد كان النصيب الأكبر من هذا العزوف من نصيب حزب النور السلفي، ولقد أعاد الانقلاب العسكري حالة من النقاش والحوار الذي بدأ عنيفا وتخوينا ثم ما لبث أن أخذ صفة الهدوء وحسن استماع الاخر، وسرعان ما تطور وأخذ مساحات أكثر جدية ونضجا.

شعر كثير من شباب الإخوان المسلمين، بحالة من الأسى والحزن، بعد إحساسهم بتعرضهم للخداع والاستغلال من قياداتهم، وهو ما أدي لحدوث انشقاقات وتصدعات في هيكل الجماعة، خاصة مع تزايد النداءات، التي طالبت بمحاسبة القادة على النتائج التي ألت إليها منهجيتهم في التعامل مع الثورة بدايةً ثم الانقلاب نهايةً مرورا بالمسئول عن دماء مذبحة رابعة، وشعورهم بتواطؤ هذه القيادات.

ختاما، تشكلت الطبقة الوسطي في مصر تحت رعاية الدولة المتحكمة، بل وحتى عندما أخذت الدولة ترفع يدها عن التدخل في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، اتخذت مختلف شرائح تلك الطبقة من الحلول الفردية مخرجا لحل أزماتها الاقتصادية، بدلا من صياغة مشروع سياسي متكامل في وجه السلطة، برغم تعرضها للضربات المستمرة منذ حقبة السادات.

 

ومع ذلك مازال الأمل قائما أن يتم تطوير حوار ثرى بين شباب الطبقة الوسطي، الذى وإن بدر عليه الاختلاف إلا أنه أصبح قادرا على تطوير منظومة من التواصل الإيجابي التي يمكن معها بناء أرضية مشتركة خاصة بالثوابت الكلية والمبادئ الحاكمة التي تقوم على الحرية كقيمة كبرى، بحيث يمكن القول أن التحدي الاكبر سيكون حول القدرة على تأسيس مشروع سياسي يحفظ عملية التحول الديمقراطي، ويسعي إلى بناء تنظيمات جديدة، تراعي المبادئ الكلية التي تؤسس للمشروع السياسي، وتحافظ على استقلاليتها في وجه السلطة، خاصة مع تبني الدولة للسياسات النيوليبرالية التي ستؤدي إلى سقوط الطبقة الوسطي نحو قاع المجتمع من ناحية، واستغلال تحرر معظم أفراد التنظيمات من الأعباء التنظيمية والحمولة الأيديولوجية التي حملتهم إياها تنظيماتهم وأحزابهم وأدت إلى تفكك معسكر الثورة الذى تشكل في لحظة يناير من ناحية أخرى. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.