شعار قسم مدونات

الآن ماتت الدار أيضا يا أبا خالد

blogs - ورقة شجرة
’’لمَّا مَاتَتْ امْرَأة أبي رَبيعةَ الفَقيه دَفنَهَا، وَنَفضَ يَديهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلى دَارهِ فَحوْقَلَ وَاسْتَرجَعْ، وَبَكتْ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ يُخاطِبُ نَفسَهُ: الآنَ مَاتَتْ الدَار-أيْضًا- يَا أبَا خَالِدْ‘‘.

قَالهَا وَقلْبُهُ مُتَصَدّعٌ، يَنْزفُ وَجعًا، وَتَهَاوتْ رُوُحهُ إلى مَا يُرهقُهَا، قالَ مَاتتْ الدَارُ، وَظلَّ وَحيداً بهَا يَكَابدُ مِنَ الغُربةِ وَالوحشَةِ والفقَدِ مَا أقضَّ مَضجَعهُ وَأوهَنَ عَيشَهُ، لأنَّهُ عَليمٌ بأنَّ سَعادَة البُيُوتِ وجَمَالِهَا وَطيبِ عَيشُهَا لآ يَكُونَ بجُدَرانهَا وَلا فَاخَر أثَاثِهَا وَعلوّ طِبَاقِهَا؛ إنَّمَا يَكونُ بتِلكَ الرُوح التِي تَسْكُنْ أنْتَ بهَا، ألمْ تَرى سُبحَانَهُ يَقول"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا"، ألا تَسْتَشعِر مَعنَى السَكَنْ، أنْ يَرزُقَكْ اللهُ برَفيقةٌ دَربِكْ، تَكُنْ لكَ الأهلُ والصَحبُ وَالسَنَدْ، فَتَسْكُنْ فيهَا وَتعيشُ بهَا وَتَأنسُ إليهَا، تَطَمئنَّ لقُربهَا، فَإنْ أهمَّكَ مِنَ أمْر الدُنيَا مَا أعجَزَكْ ، فلنْ تَجدَ فِي دُنيَا النَّاسِ مَنْ تَسكُنْ إليهِ وَيُزيلُ عَنْكَ وَيُطَيَّبَ خَاطِرَكْ وَيُسَامِرَكَ بمَا تَهدأ لَهُ سِوى رَفيقةُ دَربِكْ.

ثُمَّ إنَّكَ إنْ تَدبّرتَ هَذا المَعَنَى فِي قَوْلهِ سُبحَانهُ ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾، لاسْتَشعَرتَ أنَّكَ عنْدمَا تَأوي إلى بيتِكْ إنَّمَا تَأوي إلى الدِفء وَالسّكُونْ وَراحةُ البَالِ، وَصَفاءُ الذهنْ وَطيبُ العَيشِ، وَحُسْنَ العِشرةِ مَعَ تِلكَ الرَفِيقة التِي اختَارَهَا اللهُ لَكَ، ثُمَّ هُنَّ لباسٌ لكُمْ، ليعَلمَ كُلّ وَاحدٍ منَّا هَذا المعَنى الرَائِق، وَهُوَ مَعني الاحتَوَاء؛ فهِيَ تَحتَوي ألمَكْ وعجَزكْ وَمَا يَقابِلك مِنْ ضَجرٍ فِي دُنيَا النَّاسِ، وَتحتَوي شُعورَ قلبكْ وَتفهمُ عَنْك مَا تَقُولهُ ومَا لمْ تَقلهُ، وفيهَا مِنَ المَعَانِي البَهِجَةِ مَا تَأنسْ إليهِ الصُدُور وَتَطربُ لهُ الرُوح، ومِنْ ذَلِكْ مَعني المُلاَصَقة، فقَدْ شَبههَا اللهُ سُبحَانه فِي قُربهَا مِنْك بمَا تَرتَديهِ مِنْ ثِيابٍ، فَأنْْتَ تَحتويهَا وَتَحسُّ مَعكْ بالأمْنِ، لَكنْ يَا صَاحبِي في حَقيقَةِ الأمِر هِي الأميرةُ عَليكْ مِنْ حيثُ تَدَري أوْ لا تَدَري.

فَإنْ فَقدْتَهَا مِنْ بَعدِ مَا وَجَدتهَا، ثُمَّ انْصَدَعَ قَلبُكْ فَاصبحَ عَلى جَمَرِ الشَوقِ نَابضًا، فَاضَغطْ عَلى صَدَرِكَ حَتى لا يَنْخلِعَ قَلبُكْ، ثُمَّ فِرَّ إلى اللهِ سُبحانَهُ وَاسَألهُ الصَبرَ عَلى مُصَابِك.

كَمَا قَالَ نَابِغَة بَنِي جَعْدَة: إذَا مَا الضَّجِيع ثَنَى عِطْفهَا تَدَاعَتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا، هَذا المَعنَى الذي ذكرتُ لَكْ هُوَ مَا جعَل أبِي ربيعةَ الفَقيهِ يَبكِي مَنْ رحَلتْ، لأنَّهَا رحلتْ وَرحَل معهَا تلِكْ الصفةُ الجَميلة التِي عَاشَ بهَا فِي وُجُودِهَا، لقَدْ رَحَلت تَاركةً لهُ الذكَرى، ثُمَّ إنَّهُ كَانَ قَويَّاً مُفعمًا يُقاسِمُهَا حَيَاتُهُ، رَحَلتْ فخَارتْ قُواهُ، وَكَانَ قُربهَا هُوَ أجَلّ المَعانِي فذهَبَتْ وَتلاشَى المَعَنى، فصَار ضعيفًا يَلتمِسُ الصَبرَ، وَأصبحَ الهَمُّ الذي كَانَ يُسَارَوهُ فيمَا يُلاقيهِ فِي دُنيَا النَّاسِ وَتُزَحزحُهُ هيَ بجميلِ مُواسَاتِهَا أصَبحَ الشعورُ بهِ يَتضَاعَفْ حَتَى أُثْقِلَ كَاهِلَهُ، وَكانَتْ الأيَّامُ تَمُر معهَا فِي أجمَلِ مَنْظَرٍ بَهجٍ بحُلوهَا وَمُرّهَا، كَأجمَلِ عِطَرٍ يَتَطَيَّبُ بهِ الجَسَد، ثُمَّ الآنْ سَتَمُرّ ثَقيلةٍ مُرهَقة، كالحَنْظَلِ ليسَ لهَا ريحٌ وَطَعمُهَا مُرّ.

ثُمَّ إنَّهَا رَحلتْ عَنْهُ وَتركتُهُ لزَمانٍ مَا بهِ سَندٌ أوْ مُتكأٌ؛ ألاَ تَرى فِي مثْلِ هَذا الشَبهِ الشَيخَ الذي عُمّرَ طَويلاً، حتَى أصْبح فِي زمَانٍ غَير زمَانهِ، قَدْ فقَد كُلَّ حَبيبٍ وَقريبٍ ورفيقٍ، ووجَدَ نفْسَهُ بينَ أُنَاسٍ لا يَفقهُونَ لهُ قَوْلاً أوْ يسْمَعونَ لهُ حَديثًا أوْ يسْتَشعِرُونَ لهُ مَعنى، قَدْ ذهبَتْ بهِ الأيَّامُ والليَالي مَدَارجٌ لا يُبَصرُ فيهَا أحدٌ يَجعلهُ عُكَّازاً يَتَكئ عَليهِ فيمَا بقيَ مِنْ أيَّامٍ لَه، فتجدَهُ يعيشُ في دُنيَا غيَر دُنيَاهُ مَا بهَا خَلْقٌ، يعيشُ عَلى مَا يختلجُ فِي صَدرهِ مِنْ سَابقِ عهدهِ، عَلى ذِكرى مَبنيَّةٍ عَلى مَكَانٍ أوْ صُورة مَا زَالتْ مَحفُورة بقلبهِ وَروحهِ وَعقَلهِ، أوْ يعيشُ على معنى أيّاً كَانَ وَصْفُهُ، لعَلّهُ يُبقيهِ عَلى قيدِ الحيَاةِ حَتى يَرحَلْ.

فَإنْ فَقدْتَهَا مِنْ بَعدِ مَا وَجَدتهَا، ثُمَّ انْصَدَعَ قَلبُكْ فَاصبحَ عَلى جَمَرِ الشَوقِ نَابضًا، فَاضَغطْ عَلى صَدَرِكَ حَتى لا يَنْخلِعَ قَلبُكْ، ثُمَّ فِرَّ إلى اللهِ سُبحانَهُ وَاسَألهُ الصَبرَ عَلى مُصَابِكَ وَانَسْ بحُسنِ مُنَاجَاتهِ، فَلَا أنِيسَ إلاَّ الله هُوَ الحيُّ البَاقِي الذي لَا يَزوُل؛ هَذهِ هِيَ الحيَاة بحقيقَتِهَا لَا نعيمٌ دَائِمْ وَلا شَقَاءٌ مُسْتَمِرّ، وكمَا قَالَ الأوَّل:

لكُلّ شيءٍ إذا مَا تَمَّ نُقَصَانُ *** فلا يُغرُّ بطيب العَيشِ إنسانُ.
هي الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ *** مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ.
وهذهِ الدَارُ لا تُبقِي عَلى أحدٍ *** وَلا يَدُوم على حالٍ لها شَانُ.

فَسلامٌ مِنَ اللهِ عَليكِ أيَّتُهَا الرُوُح الطَيّبةِ المُوَاسيَة، رَحِمَكِ اللهُ وَطيَّب ثَراكِ وَأبَدَلَكِ الله خَيَر الدَارِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.