شعار قسم مدونات

"أصيلة – باريس – فاس" والعكس

blogs - fez

في زياراتي للمدن الجديدة اعتدت أن أعرج على أحيائها القديمة، أنظر في وجوه سكانها، وأدقق في تفاصيل المباني والحارات، تستهويني تلك العادة منذ الطفولة، أحب أن أرى المدن على حقيقتها، فهذه التفاصيل تشعرني بأن المكان كائن حي يتنفس، عكس الأحياء الجديدة الباردة كثلج قطبي، لا حياة فيها ولا روح.

 

العاصمة الفرنسية باريس واحدة من تلك المدن، تجولت في بعض شوارعها الجانبية، قادتني خطواتي إلى الدائرة العشرين والتاسعة عشر وحي "بروجيه"، جلست على المقاهي ودخلت بقالات ومحلات بيع مستلزمات الهواتف، كانت مفاجأة لي أن أغلب العاملين في هذه المحلات، وسكان البنايات هم من أبناء الشمال الأفريقي، وخاصة المغرب، وآسيويين من بنجلاديش وباكستان.

 

حال هؤلاء المهاجرين لا يختلف كثيرا عن أوضاعهم في بلادهم، فهم يقومون بنفس الأعمال، وإن كان نظير أجر أعلى مما يحصلون عليه في بلادهم، يضيع أغلبه على الإيجارات والضرائب المرتفعة. هي عملية طبيعية، دخل مرتفع يساوي زيادة مصروفات. ناهيك عن الشعور بعدم الأمان والخوف من العنصرية، وغموض المستقبل، وهل أتى هؤلاء إلا من أجل الأمان وفرصة لحياة أفضل؟!.. كانت أغلب الوجوه غير مرتاحة، تشعر بالقلق والاضطراب، وعدم الراحة.. لماذا إذن أتوا وتركوا بلادهم، وبعضهم خاطروا بحياتهم وتركوا أحبتهم..

زادت حيرتي عندما استرجعت زيارتي إلى الأحياء القديمة في مدينتي أصيلة وفاس المغربيتين، وكيف أن السكان باعوا ديار آبائهم وأجدادهم الجميلة ليسكنها مئات المغتربين الفرنسيين والإسبان والألمان، جاءوا ليقيموا هنا، يملأون الشوارع ذهابا وإيابا، حيث الدفء والألفة والأمان، وتلك الروح التي تملأ شوارع المدن القديمة، بينما أهل الدور المغاربة يهاجرون إلى مساكن جديدة تفتقد لكل ما أتى لها الأجانب.

 

لقد وجد الأجانب في بلادنا ما بحثوا عنه، بينما تاه العرب في بلاد الأجانب بحثا عن سراب لن يجدوه إلا بالاندماج الكامل في المشترك الحضاري العام الذي يجمع بين كل الناس، مع الحفاظ على خصوصيتهم الحضارية والدينية وإلا فسوف تضيق القوقعة عليهم كما ضاقت علينا في بلادنا.

كان السؤال ماذا يجذب هؤلاء الأوروبيون إلى بلادنا، والسكن في ديارنا؟ ولعل نفس السؤال واجهني قبل نحو ثمان سنوات عندما كنت أعد لإنتاج سلسلة وثائقية عن "واحة سيوة"، وكان من ضمنها فيلم قصير عن البناء السيوي الأمازيغي، وكيف هَجَرَ أبناء الواحة مساكن الآباء والأجداد، وهدموها، بينما يأتي أجانب وآخرون من الإسكندرية والقاهرة التي تبعد ٨٠٠ كيلومتر على الأقل عن سيوة ليشتروا مخلفات هذه الدور، من أبواب ونوافذ وأسطح وأخشاب وأواني قديمة، ويذهبون بها إلى أطراف الواحة لبناء بيوت على الطراز السيوي القديم بكل تفاصيله، من الطين والكرشيف، وكيف أن هؤلاء الأغراب يعرفون قيمة والمميزات الدقيقة للمعمار السيوي القديم، الذي يزين جدران البيوت.

 

تكررت الظاهرة – ويبدو أنها أصبحت ملازمة لي- في زيارة لـ "واحة فجيج" المغربية على الحدود الجزائرية، وهي واحدة من أجمل الواحات في العالم، وذات تاريخ عريق في التجارة ومقاومة الاستعمار الفرنسي، فعندما تزورها طوال السنة تجدها خاوية على عروشها إلا من كبار السن، وقد عرف الأوروبيون أيضا الطريق إليها، لأنهم يعرفون أسرارها. وبينما يشعر الأجنبي في بلادنا بالألفة والدفء، لا يشعر العربي بالاستقرار في بلاد المهجر في الأغلب. ولا يفلت من تلك الدائرة بالتميز واختراق دائرة الحصار إلا القليل، في التعليم والأعمال والفنون، رغم العدد الهائل من المغتربين العرب في أوروبا.

 

على مائدة غداء في دار أسرة مغربية فرنسية في باريس.. الزوج من الجيل الثاني للمهاجرين، والزوجة حاصلة على الجنسية الفرنسية منذ سنوات ولديهما طفلين جميلين، كان سؤالي: لماذا لا تشاركون في الحياة السياسية والاجتماعية؟ تدخلون الأحزاب وتشاركون في فعالياتها، كانت الإجابة أن الحياة السياسية هنا مختلفة وهم لا يحبون الصراعات بين الأحزاب. قلت لهم لابد من المشاركة والاندماج وتحمل اختلافات الثقافات من أجل ضمان حريات أبنائكم فأنتم فرنسيون ولكم حقوق. كان الرد "هل تدري أننا نريد زيارة إسطنبول مثلا ونخشى من تصنيفنا بالإرهاب؟!" قلت أنتم مواطنون، وما يميز المواطن هو النضال من أجل الحصول على حقوقه كاملة واحترام خياراته.

 

كان هناك موقف مغاير لسيدة مغربية أيضا قالت إنها ترى نفسها وابنيها مواطنين فرنسيين، وتعدهما لأن يصبحوا مثل أحد الرئيسين الفرنسيين ديجول أو ساركوزي على الأقل. لقد وجد الأجانب في بلادنا ما بحثوا عنه، بينما تاه العرب في بلاد الأجانب بحثا عن سراب لن يجدوه إلا بالاندماج الكامل في المشترك الحضاري العام الذي يجمع بين كل الناس، مع الحفاظ على خصوصيتهم الحضارية والدينية وإلا فسوف تضيق القوقعة عليهم كما ضاقت علينا في بلادنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.