شعار قسم مدونات

قبسات من التاريخ الإسلامي

مدونات - التاريخ الإسلامي

إن الناظر في صفحات التاريخ ليبصر ما كانت عليه أمة الإسلام من عزة ورفعة وعلو في كل ميادين الحضارة العلمية والاجتماعية والثقافية والعسكرية ليجد في قلبه غصة من ألم ومسحة من حزن على ما وصل إليه حال أمتنا اليوم من تضاؤل في حجم طموحات الإنسان المسلم لتسقط من أحلام عمارة الأرض وريادة أممها إلى توفير الحد ما دون الأدنى من أبسط الحقوق الإنسانية.
 

عن فلسطين أتحدث، عن بيت المقدس الذي أكاد أجزم أن جبل المكبر هو من كبر لما وقف عليه بن الخطاب وليس العكس، عن أجراس الكنيسة التي كانت تقرع في كنف صوت الأذان. عن الشام وقلاعها الحصينة ومهد الخلافة الأموية. عن اليمن السعيد الذي لم يتبق له من السعادة سوى الاسم.. أو سعادة تخزين القات. عن مصر قطز الذي كتب الفصل الأخير في الملحمة المغولية. عن مغرب الموحدين وعن دولة الأندلس التي لم تعد سوى ذكرى طيبة في تاريخ الإسلام.
 

كل هذه الدويلات التي ذكرتها آنفا تعج اليوم بالهرج والظلم والخوف والبؤس والتعاسة وقلة الحيلة وانعدام ذات البين إلا من رحم الله. من يلقي ببصره على كلتا الحقبتين سريعا سيذهله حجم التحول الذي جعل من رعاة الأمس أغناما، وحوّل أسياد البارحة إلى مسودين، وقادة الأمم إلى مقودين. وسيذهله أيضا كيف أن أغنام الأمس تقود اليوم أسيادها وتتفوق عليها علميا وأدبيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا وعسكريا.
 

الفكر كما هو معروف يواجه بالفكر والتطرف يواجه بالاعتدال والظلم يواجه بالعدل. أما أن يتم التهرب من مشاكل أزلية في الأمة بعزوها إلى حالتنا اليوم هو ضرب من الإفلاس يراد منه خداع الإنسان المسلم.

في هذه السطور لن أبكي على الأطلال ولن أنثر الحبر لأسطر مزيدا من تأوهات الندم على الضياع أو الشوق إلى العود الحميد وإلى العهد التليد، ولكنني أدون من خلال سطوري هذه ملاحظات استنبطها من خلال المقارنة ما بين الأمس واليوم وكذا المقارنة بين التقدم والانحدار في فترات متفاوتة من التاريخ الإسلامي القديم علها تمثل إضاءات وملامح فيها من التفسير لما وصلنا إليه من حال كما فيها من السبيل لما نريد أن نكون عليه.
 

إن أول ما يتوهج بين شموع أفكاري حين أرقب التاريخ الإسلامي هو أن الكثير من الإسلاميين يشعرون ببعض الكبر تجاه تقدم الغرب وجمال حضارتهم فتراهم يرفضون اللحاق بحضارة الغرب ويحاولون أن يوجهوا أتباعهم نحو العودة إلى "الماضي المجيد" للإسلام، وهو ما يجعل منهم "رجعيين" بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالحقيقة والواقع والعقل والمنطق كلهم يتفقون أن الزمن لا يعود إلى الوراء ولا العالم يقبل بالتأخر بعد أن تقدم أو يقبل بالتخلف بعد أن تطور. لذا لن يرى الإسلام النور قبل أن نرى في النور إسلاميين يحاولون إعادة "أمجاد الماضي" لا إعادة الماضي المجيد.
 

على سبيل الإيضاح فإن الحضارة بحد ذاتها تشبه العجلة التي تدور، فهي تتقدم وتتقدم بلا توقف، فمن بادر مقدما فيها شيئا ما فعلى الجميع أن يقبله دون تأخير، فلن تقف هذه العجلة عند سبات أحدهم لتنتظر مشورته في تفاصيل ومعالم الحقبة التي تدور فيها سواء كانت هذه الإضافة علمية أو ثقافية وسواء كانت تتعلق بالحياة العامة للإنسان أو حتى بالحياة الخاصة بمجتمعات معينة. نلاحظ أنه لما كان الإسلام قويا غزت طباع حضارته كل الثقافات النائمة: أزياء الإسلام، لغته، علومه، وكل مظاهر الحضارة الإسلامية فرضت نفسها وآثارها على العالم، فمن الطبيعي أن يفرض العالم الغربي اليوم مظاهر حضارته علينا لأننا في سبات حضاري. إن رفضنا هذا الأمر فستدور العجلة وتبتعد عنا أكثر، فليس أمامنا إلا أن نقبل ذلك، أو أن نعيد تدوير عجلتنا.
 

إضاءة أخرى يمكن استنباطها من قراءة المراحل المتعددة للتاريخ الإسلامي وهي أن حالة الاستقطاب الفكري الحاد إما بشذوذه في الغلو كداعش مثلا أو شذوذه في التفلت مثل حركات وموجات الإلحاد التي بدأت تظهر شيئا فشيئا وما بينهما من درجات، تعزى بالدرجة الأولى لسنن إلهية خالصة، بالضبط كسنة الدفع وسنة الاختلاف وغيرها من السنن، أما الأسباب التي يتم الترويج لها كالتفكك والتخبط وغياب القائد وتغييب البوصلة الإسلامية الحقيقية هي أسباب تساعد على هذا التطرف في الأفكار ولكنها ليست وحدها سببا في نشوئها أو جعلها من ظواهر هذا العصر.
 

فلو حاولنا البحث عن أسباب الاستقطاب الأيديولوجي اليوم سنجد أن السبب المحتمل في غياب العدو المشترك قد سقط عند انفصال ثلث جيش المسلمين في أحد رغم وجود قريش كعدو أوحد للمسلمين، وفقدان البوصلة سبب سقط عند ردة المسلمين في عهد أبي بكر وهو الصديق صاحب رسول الله وأقرب الخلفاء زمانيا له، وقوة الدولة سبب سقط عند اغتيال ذو النورين عثمان على يد الخوارج في حين أن جيوش المسلمين كانت تجوب حينذاك أرجاء الجزيرة العربية، أما غياب القائد الموحِّد سبب سقط في عهد علي بن أبي طالب، فمن كان أولى من أول فدائي في الإسلام أن يتحد خلفه المسلمون على سبيل المثال؟
 

الشعب الصالح لا يمكن أن يقبل إلا بقائد صالح وكذا القائد الصالح لا يمكن أن يبقى صامدا لولا شعب صالح يحميه، وهو ما دفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين امتدح فاتح القسطنطينية أن يقول "ونعم الجيش ذلك الجيش".

إذا أردنا حقا مواجهة هذه الظواهر فلنواجها بالوسائل المثلى لمواجهتها، فالفكر كما هو معروف يواجه بالفكر والتطرف يواجه بالاعتدال والظلم يواجه بالعدل. أما أن يتم التهرب من مشاكل أزلية في الأمة بعزوها إلى حالتنا اليوم هو ضرب من الإفلاس يراد منه خداع الإنسان المسلم بتصوير نهضة العالم الإسلامي كنهضة يوتوبية خالية من الشوائب والمعيقات عكس الواقع الذي يحتاج إلى نفضة حقيقية في وعي وتفكير المسلمين.
 

من إضاءات الأمل التي قد لا ينتبه لها كثير من مجددي الأمل بالأمة وكثير من المؤمنين بحتمية العودة إلى المكانة الرفيعة والدرجة النبيلة لأمة الإسلام، أن التاريخ الإسلامي يحمل في ثناياه حكايا كثيرة عن أمجاد أمتنا وبطولات رجالاتها التي سطروها بماء الذهب في صفحات العزة، حتى ظن القارئ المسلم أننا في هذه الحال من التشرذم والتمزق والتشتت أبعد عن النصر من بعد السماوات عن الأرض، إلا أنني لاحظت في هامش تاريخنا أولئك الذين حُفرَت حكاياهم بزبد البحر على مزابل التاريخ، ما يطمئننا أن النصر لا يأتي فقط لأمة نظيفة تخلو من العيوب يحكمها الصحابة ويبني عمادها التابعين بل إن أمة عمر ومعاوية والفاتح وسليم كانت تعج بأعداء الداخل من عملاء ومنافقين وخونة ومحبطين ومثبطين ومرجفين وغيرهم بالضبط كما تعج بهم أمة الإسلام اليوم.
 

أخيرا وليس آخرا، أختم بقبسة جديدة يستنبطها المتأمل في طبيعة الدولة الإسلامية بمراحلها وفي نقاط قوتها ما إن كانت تتركز في الشارع أم في القصر، عند الشعب أم عند الأمير، فنجد أن معالم طريق العودة لمجد الأمة يرسمها الجندي وليس القائد، يرسمها المواطن وليس الرئيس، يرسمها الشعب وليس الحاكم! الناصر والظاهر والفاتح والفاروق وغيرهم لو تقلدوا اليوم مناصب الأمس لرأيت في الأمة ما ترى الآن، لكن لو جئت بأهل بدر وجعلتهم شعبا في أمة اليوم، لربما رفرفت رايات الإسلام على قصور إليزابيث. ذلك أن الشعب الصالح لا يمكن أن يقبل إلا بقائد صالح وكذا القائد الصالح لا يمكن أن يبقى صامدا لولا شعب صالح يحميه، وهو ما دفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين امتدح فاتح القسطنطينية أن يقول "ونعم الجيش ذلك الجيش".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.