شعار قسم مدونات

في ظِلالِ الأخشبَين

Muslim pilgrims walk on roads as they head to cast stones at pillars symbolizing Satan during the annual haj pilgrimage in Mina on the first day of Eid al-Adha, near the holy city of Mecca, Saudi Arabia September 12, 2016. REUTERS/Ahmed Jadallah

مكةُ المكرمة.. الاسمُ وحده يبعثُ على الألفة والسكينة، كعبةٌ توشحت بجلال السواد، وجَمالٌ قد حُفَّ بجلال التلبية والتكبير، يدركها الأذان فتزدان، وتدركها الصلاة فتدركها غايةُ الجمال. "أوَلَمْ نُمًكٍّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيءٍ"، وأيُّ بلدةٍ جمعت من الأمن والبركة والخير ما جمعت!
 

إن إبراهيمَ لما ترك ابنه الرضيعَ وأمه يفترشان فيها الرمال ويلتحفان لفحة شمس الجزيرة المحرقة ما كان له إلا الدعاء، وهل يرد الرحمن يدي خليلِه إبراهيم صفرًا! إن القدرة الإلهية التي نصبت في مكة الجبال الرواسي، وبسطت على جدب الصخر كثبان الرمال قادرةٌ على أن تفجرَ من الأرضِ ينبوعًا تحت قدمي إسماعيل فتنبت من حوله الثمرات، وهنا يتغير الوصف القرآني لمكة من "وَادٍ غَيْرِ ذِي زرعٍ" فيصبح "حَرَمًا آمِنًا يُجبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ".
 

جبل أبي قُبَيسٍ المُطل على المسجد الحرام وعليه بنيت القصور الملكية، هو أول الأخشبين ومن ظلهِ خرج السابقون الأولون من المهاجرين الذين استند عليهم أساسُ الإسلام، وبنيت عليهم أعمدته.

على أن لفظَ "الأخشبين" يُذكرنا بقصةٍ اقترن فيها العفو بالرحمة، تركا كل شيء في الدنيا واجتمعا في جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  حين ناداه مَلَكُ الجبال يوم العقبة: "إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين" فما كان منه إلا أن تبسم على ألمه صلى الله عليه وسلم وقال: "بل أرجو أن يَخرج من أصلابهم من يعبد الله على حق"، أي لطفٍ وأي رفقٍ هذا الذي ملك قلب نبي آذاه قومه وكذبوه!
 

أقمتُ بمكةَ نصفَ عمري، لم ألقَ في غيرها ما ألفيتُ فيها من الألفة وحسن الجوار واللطف. إنها وليدة دعوتينِ اجتمعتا في الأرض والتقتا في السماء، دعا لها خليل الرحمن بالأمن والبركة، وأعقبه خاتم الأنبياء بالهدى والرشاد، هي أم القرى وسيدةُ المدائن، مقصد الحاضر والباد، وقبلة المؤمنين والعُبَّاد.
 

تبدأ رحلتنا من فوق جبل أبي قُبَيسٍ المُطل على المسجد الحرام وعليه بنيت القصور الملكية، هو أول الأخشبين ومن ظلهِ خرج السابقون الأولون من المهاجرين الذين استند عليهم أساسُ الإسلام، وبنيت عليهم أعمدته، ينحدر المسير وينشدنا الحادي موَّالَه العريق الذي عرفنا به مكة وعرفناه بمكة:

بـلادٌ حباهــا اللهُ أمنًـا وكعـبةً
يُصلي إليها الناسُ فرضًا مُحتما
وآيـاتُـهـا مـا دام للـناسٍ قبـلـة
بها بينـاتٌ تنـثرُ النُفـقَ أنـجمـا
مقـامُ خـليلِ اللهِ فـيها مُحَجبٌ
ومشربُ إسماعيلَ مِن بئرِ زمزما
ولو عَـرَفَ الإنسانُ حُرمَةَ أرضِها
تأدَّب فِيها واسـتقـامَ وعَظَّـمَـا
 

هنا يسبقنا الفؤاد إلى أسفل الجبل، ويحدونا الشوق إلى حيث يستقر بيت الله الحرام، بل إلى حيث يستقر القلب وتسكن الجوارح، كم زائرٍ لم يزل فؤاده معلقًا بأستار الكعبة منذ فارقها لا تمر ساعةٌ إلا ويتحرق شوقًا إليها! وكم باكٍ على أستارِها متشبثٍ لا يقوى على الوداع، ولا يقوى عليه الوداع! كم دمعةٍ أريقت في ساح الحرم ساعة الفِراق! وكم روحٍ معلقةٍ هناك لم تزل تطوف بالبيت وتستلم الركن والحجر!

كأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وجد في وعورت جبل النور وارتفاعه بعدًا عن الأرض وقربًا من رب السماء، وكأن الله قد ألقى في قلبه حب هذا الغار المشرف من قمة جبل النور حتى يأتيه الأمر الإلهي عليه من فوق سبع سماواتٍ "اقرَأ بِسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ".

نسيرُ إلى حيث تسير الجنائز، تحفها دعوات الصالحين، وتشيعها أروقة البيت الحرام، ألف متر تفصل مقابر المعلاة عن باب بني شيبة أقدم أبواب المسجد، وجنة المعلاة كما تسمى هي فردوس مكة بها دفنت السيدة خديجة والسيدة ميمونة وعليها أريق دمع الرسول سخاءً على زوجتيه وعمه. 

هَذِهِ الخَيْـفُ وهاتِيكَ مِـنَى
فَتَـرفَّقْ أيُّـهـا الحَـادِي بِـنـا
واحْبِسِ الرَّكْبَ عَلَيْنَا سَاعَةً
نَنْدبُ الرَّبْعَ ونبْكِـي الدَّمـِنَا

إن الجبال التي ازَّيَّنت بها أرضُ مكةَ كانت على وعورتها منبعَ الرسالة ومهبطَ وحيِ السماء، ولو نطقت لأذهلتنا بما شهدت، مضينا في النهاية إلى جبل النور على طرف مكةَ، تبعد قمته عن الأرض أقل بقليل مما تبعد جنة المعلاة عن بيت الله الحرام، غير أن صعود جبل شديد الوعورة لم يكن بالأمر الهين على رجلٍ بلغ الأشُدَّ، وكأن محمدًا وجد في وعورته وارتفاعه بعدًا عن الأرض وقربًا من رب السماء، وكأن الله قد ألقى في قلبه حب هذا الغار المشرف من قمة جبل النور حتى يأتيه الأمر الإلهي عليه من فوق سبع سماواتٍ "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ".
 

هنا يحن الفؤاد إلى حيث كان في مطلع المقال، ويحدوه الشوق ثانيةً إلى مشارفِ بيت الله، ولكنْ هذه المرة على سفحِ الجبل الأحمر ثاني الأخشبين ذاك الذي رأى من عظمةِ الرسول ولطفه ما جعله يلين ويخشع، ليَخرجَ من ظلالهما أقوامٌ يرفعون راية الدين، ويفتحون باسمهِ الأمصار، وهنا يتوكأ الحادي على عصاه ويستند على صخرةٍ أخشبيةٍ ثم يستكملُ موالَه بصوتهِ الحجازي الرخيم:

واسأل الأفيالَ تعلمْ .. ما جرى عند الحُجونِ
سَوف يمضِي الحقُّ دَومًا .. عاليًا شَمَّ الجَبينِ
في عيوني في يميني .. كعبتي قُدسي وَدِيني
كعبةُ اللهِ مَلاذٌ .. للبَرايا مِن سِنِينِ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.