شعار قسم مدونات

طفولة في زنزانة الواقع

blogs - طفولة
لم نعد نستمتع كالسابق في هذه الحياة. يبدو أن الذي يحول بيننا وبين الصغار هو ما نحمله في داخلنا من دروس ورؤية وتجربة تجعلنا نحد من تصرفاتنا أكثر حذراً وفقاً للوعي الذي بحوزتنا.

أعلم كل العلم أني حين لا أعي شيئاً "أي حين أتصرف كالأطفال" بطبيعة كاملة أستمتع.. وحين أكون في أوج استمتاعي وتدور في بالي فكرة ينخفض مستوى الاستمتاع تدريجيا لأنني أعود للوعي الكامل للمشاعر التامة للغوص في الكلمة في الفكرة في المكان.. فتسحبني الدوامة!

وأعلم بأني وبكل ما أوتيت من قوة لدفعي للأمام دون ملل وبأمل متنهد الأحشاء لا أملك الآن سوى فراغ يلتهم داخلي بأصواتٍ تتكاثر.. وتشتيت لا مرسى للنفاذ منه، وضياع دائم دون أن أوجد!
كم هو بائس ومحبط أن لا تفعل شيئا في هذه الحياة، وأن تعتمد هواياتك وما تحب من الأشياء على مزاج لا "خلق له"، كلها تضج بنا بملامح مخدرة بفعل الروتين والحياة اليومية المطولة!

كم من طفل يلهو "دون نفَس" في زوايانا الفعلية.. لا يتوق سوى للانطلاق دون قيد دون مراسم، أن يكون حراً مما تحمله الأكتاف الآن. "ماذا كنا نرى في الكبار لنسارع في طلب أمنية حمقاء في تعجيل سنوات عمرنا!"، وماذا يتصور الصغار الآن عن حياة الكبار وهم يعيشونها واقعاً! وهل سوف يحمل طفل اليوم طفلاً في داخله حينما يكبر أم أنه لن يتوق لشيء؟

أن تكبر رويداً رويداً وأن تبتعد بكل ما فيك نحو عالمٍ لم تكُن تعلم بأنه رغم قسواته الحانية سيجعلك ناضجاً ولو قليلا لتُكمل المسير. هذا النضج يلعب دورا رئيسيا في عدم استمتاعك.

بين الفينة والأخرى أنفض الغبار عن الطفولة المتشبثة أنا بها قبل أن تتشبث هي بي، لكي أكون على ما يرام ولكي لا أنسى. في أحيانٍ كثيرة تفهم متأخراً أن كل ما يحدث هو تنازل عن تعلقٍ بما أنت فيه لتكمل خطاك.. لتكتمل، وأن مسار العودة سيبقى واضحاً في الذاكرة فقط، وأن كل الأشياء ستكسرك على دفعات متتالية في البداية.. وأن هذا الانكسار ما هو إلا طبطبة لصفعات مخبأة سيرممها ما بداخلك من قوة من حب ومرونة.

ليس سهلاً أن تكبر بعيداً! فعين أمك لن ترى غطاء سريرك المتساقط عنك ليلا، ولا بكاءك المتقطع في أوج تعلمك.. ولن يكون هناك اختباء مكثف خلف أبيك ولا انتقال مفاجئ من الكنبة إلى السرير حين تغفو عينك!

كلها تكسرك في أول اغتراب لك، في أول مرض لك.. وكلها تتعالى مع صوت بكاء الطفل فيك الذي تحمله أينما وليت وجهك. أن تكبر رويداً رويداً وأن تبتعد بكل ما فيك نحو عالمٍ لم تكُن تعلم بأنه رغم قسواته الحانية سيجعلك ناضجاً ولو قليلا لتُكمل المسير. هذا النضج يلعب دورا رئيسيا في عدم استمتاعك، كيف؟ حين تكون ناضجا بالفكر مُستقبلا ومحللا كل شاردة وواردة مع المزاج المستعد للتعاسة فأنت هنا لا تستمتع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.