شعار قسم مدونات

رحلتي من الكلام إلى الصّمت

silence
لطالما أخذتني الطّريقة التي يصمتُ بها بعض النّاس، لا أعرف كيف أشرح ذلك، ولكنّني قابلت بالفعل أناسًا تحيط بهم هالةٌ رهيبة من السّكون، تكاد تلمسها من شدّة وضوحها، وكأنّ ما يصمت فيهم ليس الفم وحده، بل وحتّى الجسد. دماؤهم تسيرُ في سيّالاتٍ هادئة. متناغمون مع ذرّات الوجود، وكأنّهم خلقوا ليشكّلوا معها ثنائيّا. وللعجب، حتّى حين يتكلّمون يلفّك توْق غريب لتستقبِلَ موجاتهم الصّوتيّة شديدة الانتظام، فهي لا تقلّ سكونًا عن كلّ ما سبق. هؤلاء الأشخاص غالبًا ما يكونون قليلي التبسّم، ولكن ليس بقصد العبوس. ملامحهم تخلو من التّعبيرعلى نحوٍ بريء، كصفحة بيضاء تستثير مخيّلتك لتملأها. وفي المرّات القليلة التي يضحكون بها ستشعر أنّ الشّمس أشرقت.

منذ مدّة طويلة شكّل لي هذا النّمطُ الفريد من الشّخصيّات -من وجهة نظري- طموحًا، ثمّ عقبةً كؤود لم أستطع تطويعها، فعلى قدر حبّي لهؤلاء الأشخاص، إلا أنّني بعيدةٌ عنهم كلّ البعد، ولا أمتلك أيّة مقوّمات تؤهّلني لمجرّد الطّموح بأن أصبح واحدةً منهم. أنا على النّقيض تمامًا، أحبّ الكلام، ليس الكلام الذي نقصد به الحاجة الإنسانيّة للتّواصل، ولكنْ الكلامَ المُتعة، الذي يثير ذهنك دائمًا، ويعلق به.

أعشق اللّحظة التي تلمع فيها كلمةٌ غريبة أمامي، أو مصطلح وليد الموقف مؤثّرا، أودّ لو أستطيع تخليدها. أكرهُ أن يجتمع شخصان أو أكثر ثمّ يجثم عليهم صمتٌ كثيفٌ يمكن قطعُه بسكّين، فأبادر دومًا وأقطعه بالفعل. دمائي حارّة، أكاد أشعر بدبيبِها أحيانًا وهي تركض في شراييني. أمّا الضّحك والابتسام فلم يعودا خيارًا متاحًا للتّعبيرعن الرّضا والاستحسانِ لشيء ما، بقدر ما هما عادة، صرتُ لا أشعر بتأثيرها المنشودِ على النّاس. جُملة "انطفأت بهجته" مناسبة جدًا وتلخّص الحال.

اتّخذت قراري عدّةَ مرّات للتّوقّف عن كوني شخص دائبَ الحركة والكلام، ليس من باب ضعف الثّقة أو عدم تقبّلي لنفسي، بقدر ما هو سعيٌ نحو الأفضل، أو ما كنت أعتقد أنّه سعيٌ نحو الأفضل، على الأقلّ أخطاء هؤلاء النّاس أقلّ بكثير من أخطائي! وفي كلّ مرّة كنتُ أحاول فيها تخصيص ساعاتٍ معيّنة خلال النّهار بهدف التدرّب على تقنين الكلام وتشذيب الحركة وتقمّص الهدوء، علّه يصبح عادتي في نهاية المطاف. كنت أصطدم بتعليقات سلبيّةٍ كثيرة، وتساؤلات أكثر حول ما إن كنتُ بخير، أو أعاني من مشكلةٍ ما، فأنا أبدو متعبة ومكتئبة "بزعمهم" فضلا عن المطالباتِ الغريبة بالعودة إلى ما كنت عليه في أسرع وقت.

وتستمرّ حلقة الإلحاح حتّى أصبحَ متعبةً بالفعل مِن كمّ التبريرات المرهِقة، التي عليّ أن أكرّرها لكي لا أشرح السّبب الحقيقيّ وراء ذلك، والأيْمان المغلّظة التي يجب أن أحلف بها كيْ يتأكّد من صحّتي الأهلُ والأصدقاء، ثم –برحمة من الله- يتركوني وشأني.

على أيّة حال، انتهت تلك الرحلة، نذير الشؤم، بفشلٍ ذريع يتلخّص بعدولي تماما عن أيّة فكرة مجنونة مُشابهة قد تخطر في بالي يومًا ما، غير أنّها –أي الرّحلة- ساقتني إلى استنتاجيْن بسيطيْن أرغب بمشاركتهما معكم:

أوّلا: إنّه لصعْب فعلا أن تتغيّر في مجتمعنا، ليس صعبًا وحسب، بل يكاد يكون مُستحيلا! نحن نعيش في بيئةٍ متشابكة، حيث يتدخّل الجميع في شؤونك، صغيرها وكبيرها. وللأمانة، فقد التمستُ أنّ التّدخّل الذي يُطوَّقُ به المرءُ غالبًا ما يكون لدواعٍ طيّبة، أصلُها الحبّ. ولكن من الحبّ ما خنق! ليس جديدا أيضا إن قلت أنّ مزاجك النفسيّ بات يُقاس من اقتباساتك، و من فتراتِ ظهورك على مواقع التّواصل، رغم أنّ سبب غيابك قد يكون بسيطا جدا ولا يمتّ لمزاجك بصلة، كأن تكون مشغولًا مثلًا! في حالتي، كان غيابي المؤقّت مؤشرًا خطيرًا وجادّا على العزلة والاكتئاب.

الأنماط المختلفة من الشّخصيّات تشكّل معا لوحتنا البشريّة، وإذ يليق ببعض النّاس صمتُهم وهدوؤهم، فلا يليق بآخرين إلا الكلامُ والحركة.

في الحقيقة حاولت أنْ أُمَنطِق الرّابط العجيب بين هذين المقترَحيْن، عبثا، فاستنتاجات النّاس الغريبة لا تملك إلا أن تضحك أمامها، ومهما كانت عارية عن الصّحة فأصحابها يكونون منها على تمام الثّقة، وسيطلقونها عليك كأحكامٍ قطعيّة، ثم سيتفاعلون معك بناءً عليها. ونحن في النّهاية لا نستطيع تجنّب النّاس وإقصاءَهم، كما أنّهم محقون أحيانا، يمكنك فعلا أن تغيّر شيئا ما فيك، لكنّك لن تستطيع مطلقًا أن تبدّل جلدك، أن تنتقل بالكامل بين طرفيْ نقيض، ودفعة واحدة. سيشكّل هذا صدمةً لنفسك قبل الآخرين، كان هذا خطأي، أعترف بذلك.

من هنا يقودني الاستنتاج الأوّل إلى فكرةٍ أخرى لن أخوض فيها، فهي أشدّ تنكيلا، ولكن، يشرحُها جاكوب برود بشكل وافٍ حين يقول: "تأمّل مدى صعوبة أن تغيّر نفسك، وسوف تتفهّم عندها فُرص نجاحك في تغيير الآخرين."

ثانيا: "لولا وجود عكس المعنى، لما كان للمعنى معنىً"
رحِم الله إبراهيم الفقي، لا تغيب عنّي كلمته تلك. كان يقصد أنّ القبح يبرز الجمال، والظّلمة تقود إلى النّور، ولو غاب أحدهما لما بقي لبقاءِ الثاني أيُّ معنىً، بل وفي حالاتٍ كثيرة لا يكون نقيض الشّيء سيّئا بالضّرورة، فهناك الحلو والمالح، والليل والنّهار، وكلّ مطلوب. لو شاء الليلُ أن يؤدّي غرضَ النّهارِ، والنّهارُ غرضَ الليل، لانقلبت الدُنيا واختلّ نظام الكون.

الأنماط المختلفة من الشّخصيّات تشكّل معا لوحتنا البشريّة، وإذ يليق ببعض النّاس صمتُهم وهدوؤهم، فلا يليق بآخرين إلا الكلامُ والحركة، لذا حين نقرّر أن نتبادل الأدوار نبدو كمن يرتدي ملابس فضفاضة لا يناسبه مقاسُها. و من زاوية أخرى، سنجد أنّ للعبوس العارض من الأشخاص المبتهجين تأثيرا مضاعفا، عن الغرض الذي يؤدّيه العبوس مِن الذين صار ذلكَ سمتُهم الدّائم، تمامًا مثلما أنّ ابتسامةَ هؤلاء العارضة أدّت غرضًا مضاعفا عن ابتسامة الآخرين الدّائمة. وكما يقود الحزنُ البعض لغايات سامية، لا يُقاد البعض الآخر لتلك الغايات إلا من طريق واحدة، هي السّعادة.

واللهُ مقسّم الأرزاق والأحوال. "ألا لهُ الخَلْق والأمرُ"…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.