شعار قسم مدونات

بلادُ الظلم أوطاني

blogs - palestine

نولد صغاراً ضعافاً لا نقوى على برد وجوع هذه الدنيا فيتلقفُنا أهلنا بحنانهم فيُختزل مفهوم الوطن بالنسبة لنا في حليب الأم وحضنها وعطف الأب ورعايته المستميتة لنا وعندما نكبر قليلاً ونبدأ بالتحدث والشعور بالآخرين تتوسع دائرة الوطن لتشمل الأخوة ثم بعض الأصدقاء والأقرباء .ندخل المدرسة ونبدأ بدراسة بعض المفاهيم الوطنية مثل (بلادنا الجميلة العلم الفلسطيني، خريطة فلسطين، تاريخ الاحتلال، الشهداء والأسرى).
 

لا أعلم متى بالتحديد يتم غرس مفهوم الوطن (القومي) في عقولنا ولكنه باكرٌ جداً، فترانا منذ الصغر نتزين بأعلام فلسطين ونلعب ألعاباً لا تليق بالصغار مثل الحرب وجنازة الشهيد، ولقد كان الشهيد هو الدور الذي يتنافس عليه جميع الأطفال، فنحمله فوق الأكتاف ونصيح بحناجرنا بصدقٍ رغم علمنا المبُطن بأننا نمثل! "بالروح بالدم نفديك يا شهيد" لا نعلم حتى ما الروح وما الدم بعد ولكننا تربينا على هذه القيم فمشينا عليها منذ الصغر.
 

أيقنت أن الوطنية أن تؤيد المظلومين في كل مكان، لا من يتبعون طائفتك أو قوميتك فقط، ويجب أن تدعمهم كأنهم إخوانك وتقف إلى جانبهم فظالمُنا واحد وظلمُنا واحدٌ أيضاً.

في مرحلة الإعدادية حين حفظت القرآن الكريم والتزمت دينياً وبدأت بدراسة علوم الدين والبحث عن ذاتي وعن أسباب وجودنا وكل هذه الأسئلة الوجودية المفتوحة التي تبدأ بأداة الاستفهام لماذا غالباً، فتركز مفهوم الوطن بالنسبة لي في الإسلام فأنا مسلمٌ قبل أن أكون فلسطينياً أو عربياً وهكذا. ولكنني كبرت في وطن متروكٍ من قبَل كل المسلمين والعرب فبدأت بإعادة النظر في هويتي الإسلامية (القومية لا الدينية) فأدركت أن أمة الإسلام قد ولُت وأمامها الكثير لتعود كما كانت خاصةً بعد ظهور بعض الجماعات الإرهابية التي تنسب نفسها إلى الإسلام وهي لا تنتمي إلى الإسلام في شيء.
 

حينما بدأت بكتابة الشعر في أول المرحلة الثانوية وجدتني لا أكتب إلا عن شيئين أو عن وطنين بالمعنى الأصح أمي وفلسطين، فبدأت أعيد ترتيب الوطن في دماغي وكنت أحمل هم هذا الوطن في صدري وبين حروف أشعاري، كأنني من فرط في هذه الأرض أو من خذلها وكلما سمعت نبأ استشهاد أو اعتقال أحدهم شعرت أنني التالي، ليس خوفاً ولكن تيقناً بامتلاكنا نفس المصير! وكان مفهومي للوطن في فلسطين صحيح لكنه غير كامل فلقد كانت فلسطين بالنسبة لي هي تلك ال 27 ألف كم مربع التي درستها في منهاج جغرافية فلسطين في الصف الخامس الابتدائي، وبعض التضاريس والمعالم السياحية، ومناخها المعتدل صيفاً الدافئ شتاءً.
 

وفي أواخر العام 2013 تركت فلسطين لدراسة الطب في مصر الشقيقة وتركت وطني جسداً وعقلاً، تركت عائلتي وأصدقائي، تركت كل شيء حتى ملابسي القديمة، كانت الغربة بالنسبة لي هي ولادةٌ جديدة ولكنها أصعب، بلا أمٍ تمسح على رأسك كل مساء وتقول لك بكل حبٍ وأملٍ صادقٍ "غداً أجمل بإذن الله" وبلا ذكرياتٍ طيبة في هذا المكان تستسقي منها الأمل والسعادة. لم أجد حولي أي شيء ينتمي لوطني فلسطين، حتى الشمس والقمر في مصر مختلفانِ عن فلسطين، كانا أقل حجماً ونوراً وأكثر بؤساً، ولكني كنت أملك هذا الشيء المبهم في صدري، لم يتغير إطلاقاً بل ازداد توهجاً حينما انطفأ ما حوله من أنوارٍ خافتة ربما هو الوطن.
 

وكان يتردد عليّ ذلك السؤال "أنت من وين" وغالباً كانت تستمر المحادثة لتشمل الاستفسار عن بعض الخلافات السياسية وتاريخ فلسطين الذي لم أكن قد فهمته بوضوحٍ بعد، شعرت بأنني سفير لبلادي خارج البلاد ولكنني لم أكن أعرف عنها الكثير فبالطبع المناهج الدراسية لا تغني عن الكتب والروايات والأدب الفلسطيني المليء بما يملئ النفس بؤساً وحباً وأملاً وقهراً في نفس الوقت.
 

استمر مفهوم الوطن بالوضوح في دماغي ولكنه كان وطناً بعيداً، أحلمُ به كل ليلة وأستيقظ لأكمل بقية يومي في هذه الغربة، وكان هناك جزءُ ناقصٌ من تعريف وطني، لم أقدر على طمسه فبحثت وراءه، وفكرت في هذه النقاط لمدةٍ طويلة…
 

كلما حاولنا تعريف الوطن اختزلناه وحصرناه في أراضٍ حدودها موضوعةٌ من قِبَل الاستعمار ربما، أو في أناسٍ لا يربطنا بهم إلا بعض التشابهات الجينية في مادتنا الوراثية (DNA).

-اذا فرَضنا أن الوطن هو الأرض التي ولدتَ فيها وتربيتَ عليها وخدمتًك بمؤسساتها وأفرادها،فهناك بعض الفلسطينيين الذين لم يطؤوا تراب فلسطين بعد وقد شغفهم حب هذه البلاد لدرجة الموت وبعضهم رغم امتلاكه لجنسية أخرى ما زال مصراً على فِلسطينيتِه ومتمسكٌ بلهجته وتقاليده ولا ينفك أن يغرسها في أجياله القادمة.
 

-لو كان الوطن هو البلد الذي أعطاك الأمان والدفء والحياة الكريمة فبعضنا لم ينَلْ من وراء بلده إلا العذاب وما زال متيماً بحب هذه البلد ويرفض الهجرة منها.
 

-لو كان الوطن هو وطنُ الأهل ببساطة، فماذا نفعل إذا كانَ كلٌ من الأب والأم من وطنٍ مختلف! أم أننا سننتمي لوطن الأب فقط وكأن الأم لا تمتلك تلك الوطنية اللازمة لتورثَها لأبنائها، أليس كافياً أننا ننسب أسمائنا لآبائنا فقط؟! فلا بد أن الوطن أعظم بكثير من هذه التعريفات المنقوصة وبالطبع لن أقوم بتعرفيه حتى لا أقع في الخطأ.
 

وحين بدأت بالقراءة ومتابعة أخبار البلدان الأخرى ومآسيهم وما يتعرضون له من اضطهادٍ وقتلٍ، أدركت أنني كنت أنانياً أو عنصرياً حتى بعض الشيء، أتفاخرُ بأنني من بقعةٍ لا دخل لي في اختيارها إلا أن أبي وأمي قد كانا منها وقد ولدت وتربيت فيها، وسألت نفسي "لو لم تكن فلسطين محتلة كما هي هل كنت سأشعر بهذه الوطنية تجاهها كما أشعر الآن؟! بالطبع لا".
 

أدركت أنني أحب وطني لأسبابٍ أعظم من كوني منه فقط، فأنا لو لم أكن فلسطينياً كنت سأكرّسُ حياتي للدفاع عن فلسطين ولا أتخيلني بدونها. وأيقنت أن الوطنية أن تؤيد المظلومين في كل مكان لا من يتبعون طائفتك أو قوميتك فقط، ويجب أن تدعمهم كأنهم إخوانك وتقف إلى جانبهم فظالمُنا واحد وظلمُنا واحدٌ أيضاً، ولا أحدَ قد ذاق شعور الخذلان أكثر منّا فكيف نذيقه لأولئك المظلومين مجدداً.
 

كلما حاولنا تعريف الوطن اختزلناه وحصرناه في أراضٍ حدودها موضوعةٌ من قِبَل الاستعمار ربما، أو في أناسٍ لا يربطنا بهم إلا بعض التشابهات الجينية في مادتنا الوراثية (DNA). بلادي هي كلُ بلدٍ أو عرقٍ أو طائفةٍ تعاني الظلم وتحلمُ بالسلام، أما أبناء شعبي فهم لاجئون في المنفى يجمعهم الألم والقهر والحلم بوطنٍ أفضل، وخيمةٌ بيضاء في الملجأ أصدقُ من ألف علمٍ زائفٍ يرفرف فوق أرضٍ مسلوبةٍ من أهلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.