شعار قسم مدونات

الساعاتي

blogs- الساعات
منذ فترة اهداني أحد أصدقائي الأعزاء ساعة كاسيو من ذوات العقارب، كنت مولعا منذ صغري بالساعات التي تعمل بالعقارب واقتنيتها باستمرار، حين نجحت في المرحلة الإعدادية منذ ثمانية عشر عاما، وكان ترتيبي الثامن مكررا على المدرسة ولم أكن مغتاظا من كون ترتيبي الثامن فأنا لم أتوقع لنفسي ترتيبا من الأساس بقدر ما كنت مغتاظا من كوني مكررا، فلم أكن كطفل أحب زحام الخانات وكنت أكره العلامات العشرية جدا.


ومما زاد الطين بلة أن مزاحمتي في الترتيب كانت من فتاة.. دخلت هي القسم الأدبي في الثانوية، ومن ثم تفوقت ودخلت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ودخلت أنا القسم العلمي وفشلت فيه فشلا ذريعا، ومن ثم دخلت كلية الحقوق كلية العظماء المجانين.. وأنا الآن أحيي تقديرها لذاتها وأتمني لو سلكت نفس مسلكها.. استدعى نجاحي بعض الدلال الطفولي مستغلا مكانتي في قلب جدي، وأنا أول حفيد له، فطلبت منه أن تكون هديتي ساعة ORIENT ذهبية اللون وكان لي ما طلبت.


نرجع إلي ساعتي "الكاسيو" التي لاحظت عليها عدم الانضباط منذ فترة، كعادة كل شيء في هذه الأيام، ولم أشأ أن أستغني عنها فأنا شخص عنيد جدا فيما يخص أشيائي القديمة، فلا أتنازل عنها بسهولة، كما لو أنها أخذت حيزا من روحي حين أخذت حيزا من عمري!!


ربما لأن كل شيء جديد هذه الأيام لا يصنع البهجة التي صنعها القديم يوم أن كان جديدا، أو قل ربما كانت شفافية النفوس أعلى وقيمة الأشياء عندها أغلى، عزمت أن أقوم بتصليحها، وكنت قد مررت منذ فترة على دكان صغير في السوق لتصليح الساعات فانتهزتها فرصة للتنزه وتصليح الساعة وانطلقت مشيا، وهي عادة طالما أحببتها.


هذا العالم المجنون الذي أخرج كلمة الإصلاح من قاموسه، فلم يعد أحد يهتم بإصلاح شيء حتى نفسه، التي بين جنبيه، والمصلحون في كل مكان مطاردون، تمنيت من الله أن يرزقه الرزق الحسن، وخصوصا أن المملكة هذه الأيام تزيد من رسوم الإقامة النظامية بصورة تجعل هذه المهن الجميلة تندثر.

وصلت الدكان القديم ودخلت، ملقيا السلام فإذا برجل باكستاني حسن الثياب والمظهر وقديم الطراز كمهنته تماما، فلم يعد أحد في هذه الأيام يهتم بتصليح شيء مما يُقتني إلا قديمي الطراز أمثالي، الذين يخافون أن تصنع فيهم أشيائهم القديمة حين تنتزع منهم شرخا لا يلتئم، ويشعرون بالخذلان تجاهها إذا لم يقوموا بمحاولة إصلاحها لتعمل كما كانت دوما.


سألته إن كانت ساعتي تحتاج إلى إصلاح أم أنه يلزمها حجر بطارية، فألقى نظرة عليها بنظارته المكبرة العتيقة التي تجعل الأشياء المتناهية في الصغر أكثر وضوحا.. ذكرني بشاعر الإسلام إقبال رحمه الله الأب الروحي لباكستان، فقد كان ارتباط السياسة بالدين عنده أكثر وضوحا، ويبدو أن أبياته التي سرت في أرواحنا حين نظم حديث الروح، كانت تشكو حال العالم الاسلامي آنذاك، وتمني الرجل لو ان "عقارب" التروس الحركة الاسلامية تدور منتظمة ولو ببطء في مجال الزمن، لتصنع لنفسها دولة، وكان له ما تمنى فكانت باكستان.


تفقد الرجل المسن "عقارب" التروس في ساعتي، وقال إنها ماكينة يابانية أصلية ممتازة، وساعتك لا تحتاج إلا لحجر بطارية.. 
حمدت الله أنه كان يتكلم بثقة، ولم يتشكك لحظة، وقلت اعطني حجرا أصلي.. فقال عندي حجر سويسري أصلي ثمنه خمسة عشر ريالا.. فقلت خمسة عشر ريالا كثير يا جدي!! نظر إلي بطرف عينه كأنه يقول لي ربما أنت من أولئك الذين لا يفهمون معني كلمة سويسري في مجال الساعات، ثم قال عندي حجر كوري ثمنه عشرة ريالات.


فكرت برهة في نفسي وقلت ما هذا الاختيار الصعب فالسويسريون ليس لديهم جيش، لكنهم رأسماليون خبثاء، والكوريون أقوياء، يملكون جيشا نوويا لكنهم مجانين بالفطرة، تري من أقوي من الآخر؟ ثم قلت في نفسي أصحاب الأموال الخبثاء أقوي بالطبع، لأنهم يصنعون الحروب التي يموت فيها الأقوياء المتهورون عادة، 
ثم قلت اليابانيون الذين صنعوا الماكينة أيضا بلا جيش.. أو كان لهم واحد ثم فقدوه في زحمة الحياة، فلو أخذت السويسري أكون أكثر اتساقا، لا أحب أن يدور ترس بحجر إلا من جنسه، كان الرجل قد مل من الانتظار فقلت بسرعة أعطني السويسري!!


ما لبث أن أخرجه من غلافه ليجد مكانه في قلب ساعتي "الكاسيو" فعادت إليها الحياة من جديد وأخذت في النبض.. والتقطت الغلاف بسرعة لأجد مكتوبا عليه (work with swiss power ) يعمل بالقوة السويسرية.


ابتسمت ابتسامة ساخرة أغاظت الرجل المسن، وقلت في نفسي سويسرا هي مخزن الأموال في العالم كله، فهي صندوق "روتشيلد" الذي يضع فيه ماله كله وهو الصندوق المليء باللؤم وأسرار المضاربات المالية الربوية، وألاعيب رأس المال، كما أن كل حكومات العالم القوية صاحبة الجيوش الجرارة مدينة له، ولعل هذا هو السبب الأساسي الذي يجعلها بلا جيش، وعلي الحياد العسكري في أي نزاع أو حرب، لكنها لا شك ليست علي الحياد لأن ما ينتج عن الحروب من مكاسب يذهب إلي بنوكها في زيورخ منذ 150 عاما.


رغم أن أوروبا طُحنت طحنا في القرن الماضي إلا أن سويسرا لم يصبها أي سوء، رغم أنها بلد بلا جيش، حقيقة لم أعد أندهش للمفارقات إطلاقا. كان المسن قد أنتهي من كبس غطاء الساعة علي مكبسه الكلاسيكي القديم الذي يزيد عمره عن 20 عاما علي الأرجح، 
ومد يده في ثقة ليناولني الساعة رافعا حاجبيه الشركسيين بثقة زائدة، فالتقطتها منه وناولته الخمسة عشر ريالا، وقلت في نفسي سبحانك ربي كيف لهذا المسن أن يصمد بمهنته القديمة هذه وسط هذا العالم المجنون.


 تذكرت كيف أن الله جل جلاله يسوق إليه المجانين أمثالي، المغرمون بقوة الذهب وقوة الوقت ليشتروا منه الأحجار السويسرية الغالية.. الوقت والذهب اللذان أفسدا بلادنا، وأفرغا شوارعها من الفرحة، ومصانعها من العمل.. حتى أمست باكستان كما تري يا جدي، ولو كان جدك إقبال حيا لمات قهرا.


هذا العالم المجنون الذي أخرج كلمة الإصلاح من قاموسه، فلم يعد أحد يهتم بإصلاح شيء حتى نفسه، التي بين جنبيه، والمصلحون في كل مكان مطاردون، تمنيت من الله أن يرزقه الرزق الحسن، وخصوصا أن المملكة هذه الأيام تزيد من رسوم الإقامة النظامية بصورة تجعل هذه المهن الجميلة تندثر وتموت.


أكن احتراما عظيما لهذه المهنة من جهة أنها مهنة هدفها المساعدة في الحفاظ على أوقات الناس، ومن جهة أنها تقوم في الأساس على إصلاح ديناميكية الحركة وعلاقة التروس الصغيرة بعضها ببعض، تذكرت أن والد "حسن البنا" مصلح الجيل، كان ساعاتيا يصلح الساعات ويعمل في تخريج الأحاديث.. حسن البنا أتباعه مطاردون اليوم في كل بلد، يحتاجون للدعاء قلت يا جدي ادع الله لي لعل الله يصلح حالي.. وانصرفت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.