شعار قسم مدونات

الاقتصاد الصيني ومعضلة النمو

blogs-china
لاشك مع أن الصين ند سياسي عنيد للولايات المتحدة فيما يتعلق بالسيادة على بحر الصين وكوريا الشمالية وغيرها من القضايا السياسية. لكنها مع ذلك أحد الأعمدة الرئيسية للإقتصاد العالمي. لنواجه الحقيقية فإن القدرات التصنيعية الصينية بعدما كان يضرب بها المثل في تدني الجودة والرخص والهشاشة فإن الصناعات الصينية الآن تتدرج من البدائي البسيط كالورق والأثاث والألعاب إلى أعقد الآلات والمعدات والأجهزة الإلكترونية كأجهزة التلفاز والهواتف الذكية. كما قال لي أحد التجار من قبل إن المصنع الصيني الآن قادر على نسخ وتصنيع عدة إصدارات متفاوتة الجودة والتكلفة لأي منتج أو سلعة متوفرة في السوق. وهذه الميزات التنافسية هي التي أوصلت الصين إلى مرتبة ثاني أكبر إقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية وجعلتها الشريك التجاري الأول لها.

انخفض  معدل نمو الاقتصاد الصيني من 7.8 إلى 6.8 في المائة، وهو إنخفاض مقلق، مع أن المعدل مازال من أعلى معدلات نمو الناتج المحلي السنوية في العالم.

بناء على ذلك فإن العالم مع إختلافاته السياسية والإيديولوجية مع الحكومة الصينية فإنه يترقب دائماً وبحذر المؤشرات الإقتصادية الصينية لكي يطمئن بأن المصانع الصينية مازالت تعمل على ما يرام، والأهم من ذلك أن يطمئنوا بأن الطلب العالمي على المنتجات المصنعة في الصين ماتزال تتمتع بالقوة والاستمرارية، لأنه مؤشر غير مباشر على القوة الشرائية العالمية للسلع والمنتجات. حسب آخر المؤشرات الإقتصادية الصينية، إن الإقتصاد الصيني قد واجه تحديات في العام الماضي ولكنه يتوجه للتحسن مع مطلع العام الجاري.

إن معدل نمو الناتج المحلي السنوي الصيني قد سجل إنخفاضاً كبيراً خلال الخمس سنوات الماضية حيث انخفض من معدل نمو 7.8 إلى 6.8 في المائة وهو إنخفاض مقلق، مع أن المعدل مازال من أعلى معدلات نمو الناتج المحلي السنوية في العالم. نفس النمط المقلق يستمر عند النظر في مؤشر نمو الإنتاج الصناعي الصيني والذي يقيس قوة إنتاج القطاع الصناعي بمختلف تفرعاته مثل الصناعات التحويلية والتعدين وإنتاج الطاقة. لقد سجل هذا المؤشر إنخفاضاً حاداً من معدل نمو سنوي 10 في المائة إلى معدل نمو حالي إنخفاضاً إلى 6 في المائة. هذا يؤكد تراجع الطلب العالمي على البضائع الصينية ويشير إلى التراجع المتزايد للقوة الشرائية لمستهلكي العالم.

بناء على ما سبق، يواجه الاقتصاد الصيني تحديات كبيرة في هذه الأيام مع التحسن الملحوظ في الربع الأول من العام الحالي. لكن تطلعات النمو المستقبلية الصينية في خطر ولابد من الحكومة الصينية من معرفة كيفية التعامل مع هذه المعضلة، خصوصاً مع سياسات ترامب الحمائية تجاه الصين قبل أي شريك تجاري آخر. إن ترامب يخطط من وراء سياساته الإقتصادية وراء المزيد من توطين الإنتاج داخل الولايات المتحدة لزيادة عدد الوظائف المتاحة للأمريكيين، وبالتالي تحسين الأوضاع المعيشية في الداخل الأمريكي.

في جعبة الصين العديد من التكتيكات التي من الممكن أن تستخدمها لكي تحاول الوصول إلى تفاهمات وسطية بينها وبين الولايات المتحدة وتضع حداً لمناكفات ترامب.

هذا التوجه هو ما أدى لمسارعة الحكومة اليابانية للإعلان عن تخطيطها لفتح المزيد من مصانع الشركات اليابانية داخل الولايات المتحدة، مثل نية شركة "Sharp" اليابانية الإستثمار في مصنع بقيمة سبعة مليارات دولار والذي يتوقع منه أن يخلق سبعمائة ألف وظيفة للأمريكيين. لكن القيام بخطوات مماثلة من قبل الصين هو أمر مستبعد وصعب المنال؛ لأن هذا يعني المزيد من التدهور في المؤشرات الإقتصادية والصناعية الصينية وضرب أعمدة أساس النموذج الإقتصادي الصيني والذي يهدف إلى زيادة معدل الإنتاج الصناعي الصيني؛ وبالتالي الاستمرار قدماً في تنمية الناتج المحلي وتضخيم فائضها التجاري قدر الإمكان. وهو تحد تواجهه أيضاً الحكومة الألمانية ولكن بشكل أكبر لأنها لا تملك ذلك النطاق العريض من المنتجات الذي تستطيع أن تقدمه الشركات الصينية للعالم بأسعار تنافسية.

لكن مع كل هذا، ففي جعبة الصين العديد من التكتيكات التي من الممكن أن تستخدمها لكي تحاول الوصول إلى تفاهمات وسطية بينها وبين الولايات المتحدة وتضع حداً لمناكفات ترامب. الكل يعلم أن الصين تمتلك جزئاً ضخماً وكبيراً من سندات الخزينة الأمريكية، وهذا الدين الأمريكي الكبير الخارج عن السيطرة والذي لم تستطع الحكومة الأمريكية في تخفيضه بشكل جذري ومقبول عبر السنوات الماضية هو ما يساعد فعليا في الحفاظ على ثبات وتوازن الإقتصاد الأمريكي.

كما أن الصين هي أيضاً أحد الأسواق الرئيسية للشركات الأمريكية المختلفة مع القوة والشعبية الأكبر للمنتجات الصينية بين الصينيين. ولهذا فإن الصين تستطيع أن تفرض الرسوم على المنتجات الأمريكية المصدرة إلى الصين وبالتالي الزيادة في أسعارها وضرب الطلب عليها من قبل الصينيين. كما أن البنك المركزي الصيني يستطيع أن يتلاعب في سعر صرف العملة الصينية اليوان لإمتلاكه أحد أكبر المخزونات المالية للدولار والعملات الرئيسية في العالم.

حسب بعض محللي الإقتصاد، لقد كانت الصين فعلاً تفعل ذلك عمداً في الماضي بهدف تخفيض قيمة عملة اليوان مقابل الدولار والعملات الرئيسية الأخرى لكي تزيد من جاذبية صادراتها. وهو ما هاجمه ترامب بقوة حتى خلال حملته الانتخابية قبيل فوزه بالرئاسة، علماً منه بأن هذا يمنح الصين ميزة تنافسية غير عادلة. لكن أفاد محللون آخرون أن الصين توقفت عن العمل على خفض قيمة عملتها منذ سنوات لكن انخفاض قيمة اليوان مقابل الدولار خلال الثلاثة سنوات الماضية لا يدعم هذا.

لقد كانت الصين فعلاً تتلاعب في سعر صرف عملتها عمداً في الماضي بهدف تخفيض قيمة  اليوان مقابل الدولار والعملات الرئيسية الأخرى لكي تزيد من جاذبية صادراتها. وهو ما هاجمه ترامب بقوة.

أخيراً، لدى الصين ورقة تستطيع اللعب بها في حالة لو رفع ترامب الرسوم على صادرات البضائع الصينية، وهو قطاع الخدمات القوي الذي تنافس الصين فيه بقوة على مستوى عالمي خصيصاً في خدمات الإستثمار والإدارة المالية، خدمات المعلومات والإتصالات، خدمات الأبحاث والإستشارات، وبل حتى الخدمات الصحية والتعليمية. الجميع يعلم إنه من الصعب وضع حدود ورسوم جمركية على الخدمات المختلفة التي تقوم الشركات الصينية ببيعها لعملائها حول العالم.

إنه من الواضح أن كلاً من الولايات المتحدة والصين يحتاجان بعضها البعض من أجل تحقيق النمو الإقتصادي، لذا لابد لهاتان الكتلتان الاقتصاديتان العملاقتان من التعايش الصعب مع بعضها البعض. هذا التعايش الصعب يتم عبر إحداث توازن اقتصادي دقيق بحيث تتقاطع فيه مصالحهما ولا يؤدي إلى تنازلات لا يمكن تقديمها من قبل الطرفين.

من الممكن أن يكون هذا صعب المنال خصوصاً مع تقاطع الخلافات السياسية في هذا النسيج المتشابك والذي بدأ فعلاً يأخذ منحى تصعيدياً عبر عدد من القضايا الشائكة كمشكلة السيادة على بحر الصين الجنوبي بين الصين وجيرانها ومشاغبات كوريا الشمالية والخرق الأمريكي الأخير لسياسة الصين الواحدة فيما يخص تايوان. لكن الشريكان في تسيد العالم يعرفان أنه لابد لكل منهما من الملاحة عبر المياه المتقلبة وتجاوز الأزمات بينهما من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية الضرورية لكل منهما.

أعتقد أنه يتوجب على الصين لكي تدفع بعجلتها الاقتصادية قدماً أن تتوصل لحلول وسطية مع الإدارة الأمريكية بحيث تفيد وتستفيد، مع تأكيد وضع خطوط عريضة لتوضيح ما يقبل التفاوض والمقايضة وما لا يقبل. مثلما فعلت اليابان، تستطيع الصين أن تتوجه للإستثمار الداخلي في الولايات المتحدة في قطاعات صناعية معينة مقابل أن يفتح السوق الأمريكي أبوابه للمزيد من واردات المنتجات والخدمات الصينية برسوم منصفة. كما يجب على الولايات المتحدة أن تحدث توازناً ضرورياً في التدفق المالي بينها وبين الصين بالإستثمار في النظام المالي الصيني وهذا سيساعدها أكثر على ضبط أسعار صرف عملتي البلدين وزيادة التدفق المالي القادم إليها من الصين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.