شعار قسم مدونات

الإنسان بين بؤس التصنيف ووهم التقديس

blogs إنسان

النظر إلى حال الإنسان في تطاحناته اليومية مع أخيه يبرز أن أغلبها تدور حول محاولة الهيمنة، هيمنة يمكن أن تأخذ أشكالا اقتصادية، ثقافية، لغوية أو عسكرية حتى، فالكل يتذكر جورج بوش بعد أحداث 11 من سبتمبر وسؤاله الشهير الذي يصنف به من مع أمريكا ومن ضدها، هذا السؤال وما على شاكلته ينبع من فكرة تصنيفية ضيقة لا ترى سوى الأسود والأبيض وتسعى إلى التعامل مع الآخر على أساس الموالاة، ويسلك الإنسان هذا السلوك نفسيا كآلية دفاعية وهجومية في الآن ذاته، كي يجعل أمر تفاعله مع غيره عملية سهلة مبنية على نظام بأسئلة سهلة الجواب.

عطفا على المثال السابق، فمن منا لم يعترضه أحدهم بسؤال الأبيض والأسود، السؤال الذي يتوخى طارحه وضعك في قالبٍّ معدٍّ سابقا من صنعه أو بتراكمات مجتمعية. إن التصنيف الذي يقوم به الإنسان عملية فكرية طبيعية يتوخى بها تسهيل تعامله مع العالم، فإذا كانت في الحقول العلمية عملية تمنع الخلط بين المفاهيم والأفكار، فإنه يصبح خطيرا عندما تسحب هذه العملية الإنسان إلى دائرة صغيرة وممركزة حول نفسه.

إن علاقتنا بالآخر تنبني أساسا على نوع من التفضيل لمن ينتمي لطائفتنا أو ديننا أو يتقاسم معنا نفس الأفكار لكن الإنسان نادرا ما يتفق مع أخيه الإنسان في الأمور المشتركة خاصة منها المتعلقة بالسلطة والجاه ويتعامل بنوع من الأنانية، فالاختلاف من حيث كونه قانونا كونيا يضمن للمجتمع البشري استمراريته فهو مولد ديناميته والنار التي تذيب جليد رتابة الحياة في التعامل مع مختلف المعتقدات والرؤى الفكرية، ومتى غابت عن الإنسان روح نقدية وطبعت شخصيته عصبية أو حزبية مقيتة مال لا إراديا إلى تصنيف الآخر، رغبة في تنظيم تعامله معه داخل قوالب جاهزة من صنعه أو من صنع المجتمع، فالتصنيف إذن هو عملية تركيب عناصر النمط على الإنسان.

يستند الإنسان في التصنيف على قوالب معدة يصنف على أساسها، فهو كمن يرمي الناس في حفرة لا لشيء سوى لأنهم لم يوافقوه رأيه

والنمط مجموعة من المعتقدات المؤسسة التي تحكم سلوك الشخص المنمَّط، ويتقوى بكثرة المتأثرين به ولأن قانون الحق مع الجماعة هو المسيطرُ على نفسيات البشر في المجتمع، والمستند إليه في هذه الحالة فوجوده يتعزز أيضا بجودة المرميين في حضنه، وكما أن للنمط ما يعطيه لأصحابه فهؤلاء يجتهدون في تقويته وحمايته فهي علاقة مربحة للكل. 

يستند الإنسان في التصنيف إذن على قوالب معدة يصنف على أساسها، فهو كمن يرمي الناس في حفرة لا لشيء سوى لأنهم لم يوافقوه رأيه، وما حصده الإنسان من ويلات الصراع الفكري الذي يتحول إلى دموي غالبا يجعلنا نطرح السؤال حول هذه النظم الفكرية التي تبيح القتل واستعباد البشر فكريا.

وللتصنيف علاقة وطيدة بالتقديس، أكان لأشخاص بعينهم أو لمكانتهم داخل تنظيم بشري أو جماعة، أو كان لأفكار مرجعية لتنظيم بشري. فالتقديس لغة هو التطهير والتنزيه عن الأخطاء، وفي كل تنظيم بشري قائم على أفكار القادة أو أتباعهم الذين عهد إليهم أمر نشر والحفاظ على أفكار قائد التنظيم وعلى مكانته داخله وأيضا للحفاظ على بيضة جماعته، يستفيد الزعيم من حوادث ويتم المبالغة في استثنائية حدوثها فتصور على أنها معجزات خارقة.

 

ويمكن القول إن التقديس هو توسيع أو تمديد لنطاق التصنيف، فإذا كان التصنيف يعمل على التفرقة بين الأشخاص أو الأشياء على مرأى أعين الناس أي أفقيا ويساوي بينهم من حيث النوع، فإن التقديس يرفع مكانة الشخص أو الشيء فوق كل شيء أي عموديا فيعدو المقدَّس من نوع مختلف كأنه إله أو ملاك.

والتقديس ليس مرتبطا دائما بالفكرة الدينية، فكما يعلم الجميع فهناك اليوم العديد من الأيديولوجيات التي يتبناها الناس وتشكل منهاجا لحياتهم، فيحاجون بها ويدافعون عنها وقد يموتون من أجلها وليس هذا الأمر سيئا في حد ذاته إذ لست في معرض تحديد السيء من الجيد.

فكما قال إبراهيم البليهي في مقال له حول تقديس الأشخاص، أن ما يحدث للناس بتقديسهم لأشخاص مميزين، أنهم يفترضون أن ما جاؤوا به لا يمكن تجاوزه أو دحضه في حين أن إبداع هؤلاء محصور في الزمان والمكان والظروف التي أهلتهم إلى هذا التميز. وبالتالي فالمبالغة في التقديس والإعلاء من شأن أي شخص أو فكرة تحجب إمكانية الإبداع ومنه المساهمة في البناء الحضاري. فمن غير المعقول أن نسلم بعدم تكرار نموذج استثنائي لشخص أو فكرة فلكل شخص أسلوبه وأفكاره التي استقاها وركبها وكونها، فلا نهمشه ونحتفظ بالتقدير النسبي له ولا نبالغ حتى نخرجه عن حدود الضعف البشري.

نفسيا، يمكن أن نفسر رغبة الإنسان الدفينة في التقديس هو احتياجه للإحساس بالانتماء، فهو يستمد قوته من هذه العلاقة مع من يتقاسمه أفكاره ويعززها، والتي تمده براحة نفسية تعفيه من كثرة التفكير في العديد من الأسئلة التي تشغل وجدان غيره من التائهين والباحثين على أجوبة لأسئلتهم، فالشعور بالانتماء تنتج عنه سلوكيات تؤثر على علاقة الشخص بالمقربين له ومحيطه وكذا على تصوراته حول العالم ،فتؤثر هذه الأمور بشكل كبير في مصيره. 

بقاء الإنسان وسط جماعته لن يسهل عليه معركته، فهو يسلم عقله للجماعة فهذا الحضور وجداني بالأساس، فليس ضروريا أن يكون فيزيائيا محصورا في المكان، لذا فالحل الذي سلكه أكثر الناس تأثيرا في التاريخ هو الانسحاب ثم العودة

يضاف إلى هذا احتقار الإنسان لنفسه واستبعاده لأدنى محاولة للتجديد والإبداع، فهو كسول فكريا ويريد من الآخر التفكير مكانه ولهذا جذور في عقله، لقد لُقِّن أن التفكير فيما جاء به أسلافه ونقده أمر محرم وأن ما جاؤوا به هو الحقيقة التي لا تقبل نقاشا، لذا فهو يربط نفسه بشيء يعتبره أعلى منه مكانة، ويجتهد في الدفاع عنه لأن بهذا السلوك سيحمي جماعته رغم أن هدفه حماية نفسه من خطر الخروج من منطقة راحته، فلكل منا منطقة راحة يتصرف فيها بشكل مستقل جزئيا دون ضغط مجتمعي.

 

أليس الحديث عن هذا الأمر يثبت إلى أي حد نحن ضعفاء؟ للأسف نعم، فالإنسان نادرا ما يفلت من شباك النمطية وإذا استطاع ذلك سيكون بعد جهد مضن قاسى فيه شتى أنواع الصراعات، ابتداء من النفسي مرورا بالفكري وانتهاء بالجسدي والأمثلة من التاريخ الإنساني تثبت ذلك.

السؤال إذن ما الحل؟ فبقاء الإنسان وسط جماعته لن يسهل عليه معركته، فهو يسلم عقله للجماعة فهذا الحضور وجداني بالأساس، فليس ضروريا أن يكون فيزيائيا محصورا في المكان، لذا فالحل الذي سلكه أكثر الناس تأثيرا في التاريخ هو الانسحاب ثم العودة وأولى علامات الانسحاب أنه قد يشاركهم في أنشطتهم لكن عقله معصوف بألف فكرة وفكرة، فهو منسحب عقليا عنهم ولا يلبث بعد دلك أن ينسحب عنهم ليقوم بعملية مراجعة وإعادة بناء منطقة راحة صلبة، لا تتأثر بالأفكار الجامدة وتكون في عملية تجديد دائمة مع رؤية واضحة، فيعود بما يكسر النمط السائد وهذا كان درب أغلب الاستثنائيين. إذا فالتصنيف والتقديس نابع عن جهل الإنسان بنفسه، وأولى خطوات الحل هي معرفته لنفسه وتهذيبها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.