شعار قسم مدونات

الإنسان ما بين الغيب والميتافيزيقا (2)

blogs- الدعاء

في المقال السابق ذكرت أن إيمان الإنسان بالغيب كمفهوم عام، لا يقتصر على "منظومة الغيب" في الدين، بل إنه لا يكاد إنسان على مختلف العصور لم يؤمن بغيب من الغيوب! وتعرف الفلسفة اليونانية التقليد الفكري التجريدي الذي يؤسس لمعرفة عامة وعميقة عما وراء الطبيعة، كالحركة والسكون وحقيقة الحياة وما وراء الأجسام والكون وعن كل ما هو خارج مدى التجربة الحسية المباشرة.

 

لكن يظل الفرق المعرفي كبيرا عندما نتحدث عن الميتافيزيقا والإيمان بالغيب! فالإيمان بالغيب لا يكون في أغلبه سوى الإيمان بأخبار المبلغ عن السماء، فهي معرفة خبرية testimonial ترتكز على الإيمان بالمبلغ في الدرجة الأولى، وما الإيمان بالأخبار سوى تمظهر لقضية الإيمان الأولى! وصحيح أن الإنسان المعاصر اليوم يؤمن بالكثير من الغيبيات التي لا يراها، كالجسيمات الفيزيائية التي لا ترى حتى بالمجهر كالبروتونات والإلكترونات، وأحدثها اكتشافا جسيمات بوزون هيجز، لكن الإيمان بها يمر عبر ابيستمولوجيا مختلفة، وهي العلم والفيزياء النظرية. ولذلك فهي معرفة غير مشهودة، ولكنها تختلف عن المعرفة الغيبية الدينية أنها معرفة مقدسة لا تخضع للعقل، وبالتالي لا تخضع للحركة والنشاط الثقافي الاجتماعي بل للمدى الإيماني، بعكس العلم الذي يعرف أنه نشاط اجتماعي يتعاطاه الإنسان وليس الإله. (صحيح أن العلم المعاصر تجريبي لكنه ليس كذلك تماما، بل هو خليط بين الرياضيات والنظريات والتجربة).

وبما أن الإيمان بالغيب حوى مختلف الموضوعات من قيام الساعة، للموجودات خارج مدى الحواس، إلى قصص الأولين والآخرين وأوصاف الكون والسموات والأرضين ومعرفة العالم، فقد أغلق مدى كبير من المعرفة البشرية التي يستقيها الإنسان بالعقل! وكلما اتسعت منظومة الغيب كلما ضاقت منظومة العقل، فالغيب لا يأتي إلا خصما على مجال المعارف الإنسانية والأدوات الإنسانية كالفكر والتجربة، فالدين لا يقبل التعارض بين خبر الغيب ومنطوق العقل، وفوق ذلك يؤسس لمنظومة فلسفية بمنطلقات فلسفية مغايرة.

 

إن الإيمان بالغيب هو أهم محدد صاغ العقل الديني في مختلف الأديان، ويمكننا أن نقول أن الغيب كمنظومة هي التي تجعل العقل الديني لا علماني معرفيا

المؤمن المعاصر ينبغي عليه أن يتعامل مع منظومة الغيب بفلسفة مختلفة، لكيلا يغلق أبواب البحث والتقصي واستنطاق الكون أمام العلم والعقل التجريبي، فلماذا يجهد عقله في البحث عن أسرار الكون والطبيعة والمعرفة وحقيقة الإنسان إذا كان الغيب قد أطلعه مسبقا على كل شيء؟! وإذا ما نظرت للعقل الغربي العلمي، تجده ينطلق من فكرة تطويع الطبيعة والسيطرة عليها، وهنا حتى لو انطلق العقل الغيبي نحو ذات الهدف، فهو يحمل معه الغيب كاتصال وكمدى يستجيب له حتى وهو في مختبره العلمي ومحرابه المعرفي. إن الانقلاب الفلسفي المطلوب هو التحول من نظرة معرفية للدين إلى إمكان روحي ونفسي عميق، من قراءة الكون والسموات والأرض كحقيقة معرفية في النص، لإشارة رمزية فلسفية تربطه وجدانيا مع الله. إن العقل الديني يجب أن يتعاطى مع الغيب كمنظومة وجدانية وليست معرفية. 

أعتقد أن الإيمان بالغيب هو أهم محدد صاغ العقل الديني في مختلف الأديان، ويمكننا أن نقول أن الغيب كمنظومة هي التي تجعل العقل الديني لا علماني معرفيا، أو في حالة ادعاء فلسفي أنه يمتلك مصدر معرفي موازي للعقل يتطلع عبره للكون والموجودات والعالم الآخر، وفوق ذلك العالم المعاش أمامه! إن ما تواجهه قضية العلمانية في العالم الإسلامي هي الارتطام بفكرة الغيب لا كأفكار وإنما كمصدر معرفة يمكن الإنسان من معرفة العالم لا بأدواته الأرضية وإنما باتصاله وأخذه بأخبار السماء التي جاءته في الكتب المقدسة. إن الرؤية العلمانية للعالم، لن يتم توضيحها وإبانتها للعقل الديني إلا من خلال فهم وتفكيك منظومة الغيب وردها للحقيقة بمعناها الروحي وليس المعرفي! وفي هذا نجد تجاوزا كبيرا لدعاة العلمنة في العالم الإسلامي لفهم محددات العقل الديني وكيف يعمل الغيب كمصدر معرفي للحقيقة مع كونه مجال إيماني مقدس. 

في جدلية الإنسان والغيب والطبيعة، يقول المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد: "تحت ضغط التحديث والنسق الحضاري للغرب (والذي أثبت للعالم نجاحات معرفية كبيرة أصبحت تستخدم في حياة الإنسان اليومية، كالكهرباء والطاقة والتكنولوجيا) ظهرت محاولات لعصرنة المفاهيم الإسلامية بهدف اتساقها مع العقل الموضوعي"، ويقصد هنا ما أسماه بافتعال العصرانية، وهو ردة فعل طبيعية للعقل الغيبي، الذي لا يستسلم أبدا بالطبع للمعطيات الموضوعية عن العالم، وإنما يواكب عبر التأويل بذات المنظومة الغيبية مع التحديث الغربي العلمي خصوصا في نطاق التقاطع بين ما أخبر عنه الغيب وما أطلعنا عليه العقل العلمي!

 

ويمضي أبو القاسم حاج حمد ليشير إلى ما أسماه "جدل الطبيعة والغيب"، فيقول أن التجربة الموسوية تحوي الإشارة الحقيقية لرؤية النص الديني لانفصال جدل الطبيعة عن جدل الغيب، وفي ذات الوقت سيطرة وتعالي واحتواء الغيب على جدل الطبيعة، فيذكر تجربة موسى مع العبد الصالح، وكيف تعمل الإرادة الإلهية غير عشوائيا في حركة الإنسان وجدله مع الطبيعة. وبالرغم من رفض أبو القاسم حاج حمد للقراءة الإحيائية للنصوص، فإنه أيضا يقع في ذات الدائرة التي تنظر للغيب نظرة معرفية تقود للحقيقة عن العالم والكون والوجود. (وهذه النظرة الدينية تقف اليوم الحاجز الأساسي لعلمنة المعرفة).

إن الأزمة التي تعتمل في العقل الديني، هي أنه يواجه نظاميا متعايشين في وجدانه، نظام معرفي علمي يتعاطى معه العقل الديني في إطار المعرفة التقنية كالفيزياء، ونظام معرفي حاكم ينظم ويقرر المعطيات الكلية لنظرته حول الطبيعة والإنسان كالسياسة والاجتماع

النظرة التي عبر عنها المفكر حاج حمد بتوازي جدل الغيب مع جدل الطبيعة، تناهض تماما أهم مبادئ العقل التجريبي العلمي ومنطلقاته الفلسفية عن الطبيعة! فالعقل التجريبي ينظر للعالم على أنه نظام مغلق تحكمه القوانين الطبيعية ولا مجال فيه لكسر انتظام الظواهر الطبيعية عن طريق قوة غيبية متعالية. وقد أشار هنا لفكرة مركزية في فهمنا للغيب، وهي أن الغيب ليس معطيات معرفية، وإنما اتصال متحرك مع عالم الغيب، تفعل فيه القدرة الإلهية على مدار الوقت ولا تحدها القوانين والانتظامات الكونية. يمكننا ان نستخدم ذات التعبير للأستاذ أبو القاسم حاج حمد وهو نظرية العنصر المفقود، والتي كانت توجد حتى في الفكر اليوناني ما قبل الحديث، والتي كانت ترى في القوة الإلهية العنصر المحرك ما وراء الظواهر، مثل رؤية ارسطو للكون، والتي ترى في المحرك الأول السبب telos وراء حركة الكواكب، ثم انقلبت نظرة العالم بعد نيوتن، والذي قدم شرح رياضي ميكانيكي للحركة يغني عن افتعال العنصر المفقود! 

إن الأزمة التي تعتمل في العقل الديني، هي أنه يواجه نظاميا متعايشين في وجدانه، نظام معرفي علمي يتعاطى معه العقل الديني في إطار المعرفة التقنية كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، ونظام معرفي حاكم ينظم ويقرر المعطيات الكلية لنظرته حول الطبيعة والإنسان وعلوم الحياة، كالسياسة والاجتماع والقانون. لذلك نجد العقل الديني نفسه يمارس فصلا ووصلا مع معطيات العقل الموضوعي، فيأخذ الفيزياء ويرفض العلوم الإنسانية! 

سأواصل في مناقشة جدل الغيب والطبيعة والإنسان، مع أبو القاسم حاج حمد في المدونة القادمة، في محاولة لفهم الفلسفة الدينية المعرفية والتي تقع في مقابل واضح مع العقل الموضوعي المعاصر، والذي يشكل أساس الفلسفة العلمانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.