شعار قسم مدونات

مثاليتنا المزيفة!

blogs-camera
إني لا أسعى إلى المثالية ولستُ شخصاً مثاليا، إني أؤمن بمنطق الخطأ وأعترف بجُرم الذنب والمعصية لأني أمارس هذه المفاهيم رغماً عني؛ بل الطبيعة هي التي حتّمتها عليّ لأني لست معصوماً ولا أدّعي العصمة ككثير من ملائكة البشر المثاليين المنظّرين.. ولولا هذه العبارات ما عرفتُ الطريق للتّعلم وبصرتُ سبيل التوبة والإنابة.. فليس العيب في أن تكون مخطئاً أو مذنباً عاصياً؛ لكن العيب كلّ العيب أن تصرّ على هفواتك وتدّعي المثالية وسط إخوانكَ البشر!

لقد كنّا نرى أُناساً بلا ذنوبٍ ولا عيوبٍ فتتبّعُـوا عورات إخوانهم فابتلاهم الله من حيث لا يعلمون، وقد جـاءَ في الأثر: "مَنْ عيّرَ أخاهُ بذنبٍ لن يموتْ حتى يعمله." وصحّ كذلك في الأثر: "لا تُظهر الشّماتةَ بأخيكَ فيعافيه الله ويبتليكَ." فيا أيها النّاس عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم، واتركُوا الناس لربّ الناس فهو أجدرُ بهم إن شاء جلّ وعلا عذّبهم، وإن شاء عفا وغفر وهو بهذا أجدر!

لا تستهينوا باللحظات والصّور البسيطة في الأماكن البسيطة؛ إنَّ لها وقعٌ في النّفس لن تستشعروه إلا عند فقدانها؛ فتستهلون البحثَ عنها آنئذٍ في ألبوم الحياة الغابرة… ولن تجدوا شيئا!

دائماً نحاولُ إظهار الجانب الأفضل فينا ونكبتُ كلّ ما هو قبيح، نتظاهر بالفرح، والسّعادة والمرح، نبذلُ قصارى جهدنا كي نطمس حقيقتنا المُزعجة أمام المرآة؛ فالسّعـادةُ الحقيقة لا تعني تلكَ الابتسـامة المزيّفة التي نرسمها على وجوهنا كلّما راودتنا تخاريف الحياة، ليستْ هيَ تلكَ الأحـلام والأوهـام التي سرعان ما تتبخّر وتتركنا في حيرة وتحسّر، بل؛ ما يعيـشه القلب النّقيّ في عـالمه الخـاص، وما تشعره النّفوس الشّامخة في علياء صِدقها ووفائها وما تحفرهُ الأرواحُ فينا بطيبتها وبراءتها، بعيداً عن التّصنّع والتّكلّف وتكليف النّفس ما لا تُطيق.، تلكَ هيَ السّعادة الأبديّة السّرمديّة التي لا تشيـخ.

أمّا حزني فهوَ أرقى من السّعادة الزّائلة، فـالآنَ أحسّ -ولا ريبَ- أنّي صرتُ كَلِفاً بالأحزان حتّى صارتْ جزءا منّي، تسكنني، تعنّتني، وتعاتبني؛ فكلٌّ منّا قد اغترَفَ من الأحزان كأساً، أمّا أنـا فقد وُلدتُ من رحمها ومن تلكَ اللّحظة أتجرّع الكؤوس تلوَ الأخرى، ومـا زادني هذا إلا فخراً وذخراً! ذاك الجزء البسيط الذي أحملُ في داخلي من الخير أحـاولُ جاهداً نثْرَهُ عليكم قدرَ المُستطاع.

إنّنا لا نؤمن بالمدينة الأفلاطونيّة في حقيقة أمرنا بقدر ما نسعى إليها ونحرصُ على تطبيقها على ذواتنا ابتداءً. ونحن نعلمُ أن لكلٍّ منا مثالب وأخطاء وهفوات وزلات وهنات، وكذلك جانبٌ ينضح بالمناقب والمحاسن، لكن الميزان الذي نزنُ به أنفسنا هو أن تغلبَ كفّة حسناتنا على السّيئات؛ فالإيمانُ الجازمُ بجمهورية مثالية على الأرض تصديقٌ مُطلق بعالم ملائكيّ بعيد التّصور عن أخلاقيات الإنسان وتركيبته التي أودعها الله في البشر، ومعارضة للفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، وذلك كون العصمة دفنت مع رسولنا الأكرم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام!

فالخطأ واردٌ ومُحتمل، ومُحتّم علينا أن نتغاضى عن زلل الناس النّادر واليسير، أما الخطأ الفاحش المتكرر الذي لا يُستفادُ منه فلا ينفع مع صاحبه شيء إلا طلب الهداية له! و لهذا معظمُ علاقاتنا لا تدومُ ولا يُكتب لها القبول والخلود؛ لأننا نجرّد أنفسنا من العثرات ونوهمُ ذواتَنا فقط بالمثاليّة المزيّفة المُفرطة التي نمثّل أدوارها فقط أمام الجماهير، ونزعمُ بأخطائنا وزلاّتنا أنّنا في أتمّ الكمال والجمال، كما نسعى من الغير بأن يتقبّلنا بصدر رحبٍ كما نحنُ عليه وبدون نقد، بينما تجدنا لا نقبل أخطاء الآخرين ولا السّماع لأعذارهم التي نصفها دائماً بـالواهيّة…

إنّ ما أدى بنا إلى الفراق والطّلاق والشِّقاق هو حبّ المظاهر وعشق الصور، لأنّ حقيقة الشخص تدرك عند التعامل معه ومعاشرته لا من خلال شكله، فلو أحببنا الجوهر لتغاضينا عن كلّ فعل يصدر عن المحبوب لا لشيء إلا لأنّ الحبّ؛ إيمانٌ صادقٌ بأنّ لكلّ شخص نقص ما، ونحنُ من يتوجب علينا سدّ فراغ ذلك النقص والعيب. الحقيقةُ سادتي؛ ليست جليةً للعيان، بل هيَ الواقع المعيش وما يكتنفه من غموض وتناقضات، الحقيقةُ؛ هيَ ما خفيَ وراء الكلمات والشّاشات والخشبات.

دائماً نسعى إلى تَقْوِيلِ (الآخر) ما لم يقله، ونحتفظُ بالمعنى الذي نريده (نحن) من منطوق كلامه وتعامله، ولو لم تكن أيّ علاقة تربط بين قرينة المعنى القريب والمعنى البعيد، المهمّ عندنا ذاكَ التّأويل (الأجوف) -الذي أصبح يُتقنه الجميع بدون دليل-؛ كي نصل إلى نتيجة تقول: كلامكَ جـارحٌ! إنّـي أراكَ قد تسمع صوتيَ المبحوح من وراء هذه الكلمات؛ فكن صوتَـكـَ الأصليَّ وارض به ولو مبحوحاً. كُن أنتَ، وافعل ما يحلو لكَ – فـي حدود الشّرع- بمعزل عن أقوال النّاس، فسينتـابكَ الشّعورُ يوماً بـأن تهربَ من النّاس إلى ذاتك، وستجد وقتئذ أنّ هذه الذّات المتشظّية لم يبقَ لكَ منها شيء؛ فـالغربةُ التي قد نعيشها أحياناً؛ غربة الأرواح رغم قرب الجسد. ولا يوجد مصطلح اسمه الوحدة؛ مـا دام الإنسانُ فقط يختلي بنفسه، يُناجيها، يُحاورها، ويعذلها!

إننا نجرّد أنفسنا من العثرات، ونوهمُ ذواتَنا  بالمثاليّة المزيّفة المُفرطة التي نمثّل أدوارها – فقط – أمام الجماهير، ونزعمُ بأخطائنا وزلاّتنا أنّنا في أتمّ الكمال والجمال!

المعرفةُ الحقيقةُ بـالأشخاص معرفةً دقيقةً عميقةً، كثيراً ما تؤول بنا إلى الغُربة والوحدة والضّياع… كن غامضاً ولا تقُلْ كلَّ شيء، لا تفصح عن شيء يجعلك كبيراً في عين أحدهم -كائناً من كان-، دعْ ملامحك تتحدّث مكان لسانك، اترك جانباً من حياتك كالحاً حالكاً لا يعلمُ زرّ إضاءته أحدٌ غيرك، غطِّ بعض تفاصيلك بوشـاح الكتمان ولا تكشف سوءاتها للعيان، أظفر بدقائق الصّمت -أحياناً- في مجالسك؛ فمن الضروري أن نترك بيننا فجوةً وأسراراً لا يشاركها معنا إلا الغيب، كي تقوى العلاقات ويُكتبُ لها الخلود والصّمود!

أحياناً نُقَلِّصُ من تعاملنا وتصرّفاتنا فجأةً، ليسَ لأنَّنـا تغيَّرنا؛ ولكن لكوننا أبصرنا الحقيـقة الموجعة -التي تكسح القلبَ- فوجدنا في أنفسنا غضاضةَ منَ الموقف المُحتّم، وعلمنا يقيناً أنّنا أهدرنا أوقاتنا وأنفقنا أعمارنا في الفراغ وعلى السّراب. فكثيراً مـا نتنازلُ عن كلِّ شيء؛ كي لا نفقدَ ابتسامةً عهدناها في وجوهِ من نُحِبّ ولا نرى تخاريفَ الضّجر على ملامحهم، هذا لأنّنا أحببنا بصدق فتعاملنا بإخلاص.

إنّي لا أطلبُ شيئاً مستحيلاً؛ فكلُّ مـا يتمنّاه المرء في بعضِ الأحيان أن يجدَ نفساً نقيّةً طاهرةً يسكُنُها فتسكُنُهُ فيُقـاسمها أحلى لحظاته وأبهى أوقاته حُلْوِها ومُرّها. فلا تستهينوا باللحظات والصّور البسيطة في الأماكن البسيطة؛ إنَّ لها وقعٌ في النّفس لن تستشعروه إلا عند فقدانها فتستهلون البحثَ عنها آنئذٍ في ألبوم الحياة الغابرة.. ولن تجدوا شيئا! فتلكَ الخيوط المتفرّقة هيَ التي تنسجُ لنا بساطَ الحُبِّ الذي يدفئ مشاعرنا فالحبُّ الذي نزرعهُ ونحرثهُ بمحاريث تعاملنا هو بقدره ما نجنيه ونحصده أو أقل، فلا أحدَ يزيدُ بل ما أكثرَ من سيبخسكَ حقّك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.