شعار قسم مدونات

حالة اكتئاب هادئ

blogs - كآبة
لن ننكر أننا نعيش انتكاسا جماعيا، اكتئابا معديا ينتشر كالوباء ونفشل فشلا ذريعا حتى في الادعاء، ادعاء فرح لا نملك منه إلا بسمة ما تفتأ تغيب ليحل مكانها طوفان مآسينا ومواجعنا. بل وأسوأ من ذلك، نحن نفشل حتى في التصنع وحالنا مثيرة للشفقة جدا. واقعنا مليء بالبؤس واليأس والألم، مهما قاومنا ومهما ادعينا.

الألم في كل مكان.. مع أخبار الصباح ومع وجبات الطعام وقبل النوم، كحبات دواء مقيت نتجرعه علقما بتوقيت محلي وعالمي ثم ننام.. لنستيقظ على وقع فجائع جديدة نزيدها لقائمة فشلنا الذريع في أسمى مهمة خلقنا لنعيشها ونعيش لها ونؤديها: الإنسانية.

مجتمعاتنا تعيش حالة من التيه واليأس، الكل لا يعرف ما يفعل بضميره ولا بحالة الانفصام والاضطراب التي نعيشها، نحزن حتى ننسى ثم نفرح حتى نبكي فنتذكر فننكسر من العجز.. حتى نصل حالةً من الثمالة والانفصال الجزئي عن الواقع ما بين الوعي والغياب والضياع. من منا لم يحس بانعدام الطعم في كل شيء، وبمرور الأيام شبيها بمرور الحافلة التي نستقلها كل صباح، نفس الحافلة ونفس الناس ونفس الطريق. والرتابة وصلت إلى جرعة مسمومة جعلت الناس يؤمنون بها كمسكن وكمخدر ويُعدلون وقائع الحياة، مقبولة كانت أم لا، لتتماشى معها فلا يتغير شيء ولا نتقدم ولا نتأخر.

فقط نستمر في الدوران في نفس الدائرة البائسة كما تدور فئران التجارب في أقفاصها المريحة الدافئة. روتين مرير يغلف المأساة في ثوب يمكن ارتداؤه كل يوم دون إحساس بالذنب أو المرارة، وشيء من أمل بليد يجعلنا ننتظر الفرج ولا نحرك ساكنا. ليست الدعوة هنا لمزيد من اليأس والسوداوية بل هي دعوة صريحة لمواجهة النفس دون أقنعة ودون اختباء من مخاوفنا وهواجسنا تحت مسميات الأمل وادعاءات لا غد لها، دعوة لفقد الأمل في أمل زائف لنخلق فرصا لأمل جديد.

كثيرون منا في حالة اكتئاب هادئ، هادئ بمعنى أننا لسنا في حاجة إلى عقاقير أو صعقات كهربائية ولا نفكر في الانتحار.

إن كان الوضع مأساويا فلنتقبله كما هو، وإن كان الوضع كارثيا مثيرا للشفقة فلنتقبله كذلك كما هو، لنستطيع انتقاده وتبديله. أما حالة النكران الداخلي التي نعيشها فلا تزيدنا إلا غرقا في مآسيينا. واليأس كثيرا ما فجر التغيير والإصلاح، فلا يجب أن نتهمه دوما بأنه سبب انهيار الأشخاص والشعوب، وواقع مر أرحم ألف مرة من أمل زائف.

كلنا نشعر بشيء من الرضا والعرفان لأننا لسنا في بؤرة من بؤر البؤس، حيث الحرب والجوع، والبرد الذي ينخر أبدانا نهش أرواحها قبله الذل والويل وملل قاتل لم تعد تكسره حتى طلقات الرصاص والأشلاء على طول الطريق. لكن ما نفعله أخطر، نحن ننكر ونرضى بالقليل الزائل والدور قادم علينا لا محالة. التاريخ لم يرحم يوما الذين سكتوا ولن يرحم الساكتين اليوم ولنا يد فيما سيذكر التاريخ حين يذكرنا. الثورات لا تبدأ دوما بالرصاص ولا تعني دوما الدمار والخراب، بل تبدأ من الداخل، من كل فرد اختار أن يواجه نفسه بواقعها ويغير ولو بنكرانه لسوء الحال الذي يغرق فيه.

كثيرون منا في حالة اكتئاب هادئ، ولا أعمم لأن التعميم خطأ فادح وإن كان الاستثناء هنا لا ينفي ما نعيشه من مآس، هادئ بمعنى أننا لسنا في حاجة إلى عقاقير أو صعقات كهربائية ولا نفكر في الانتحار أيضا. بل نحن في حالة من الصراع الداخلي الدفين والحزين الذي يختبئ طول الوقت خلف أقنعتنا اليومية، النموذجية في غالب الأحيان، بين ما نحن عليه وما يجب أن نكونه وما يجب علينا القيام به ولا نقوم به، وكل شيء يخِز ويُخزي ضمائرنا.. وما نحتاجه هو نفس جديد وتحرير لعقولنا وضمائرنا كي نحس بالتوافق الداخلي والسلام. سلام يبدأ بتقبل الذات وأحوالها، ببؤسها وألمها وتناقضاتها وتشوهاتها. وليس بالضرورة أن يعيش المرء في رخاء ومثالية لكي يحس بالسعادة، بل سيحقق الرخاء لا محالة إذا ما وجد طرق السلام داخله. وليس مطلوبا من الكل أن يؤدي نفس الدور، أنا لا أُومن أبدا بأننا يجب أن نسلك نفس السبل للوصول إلى الهدف الأوحد. فكما أن هناك من يجاهد بماله هناك من سيجاهد بنفسه، وهناك من سيضحي من أجل عائلته وهناك من سيضحي من أجل الآخرين..

استسلمنا طويلا للعيش في منظومات وقوالب صنعت لنا، وسلكنا نفس الدرب الذي سلكته أجيال قبلنا. وشعرنا بنفس العجز وبنفس اليأس وتأملنا نفس الغد وانهزمنا أمام نفس الأوضاع.

لكن ما لا يجب أن نفعله هو أن نغرق في عجز، ننكره بكل ما أوتينا من قوة وحجج زائفة، ولا نستطيع معه شيئا ولا نحاول فعل شيء أصلا، بل يرضينا ونرضخ له. صحيح أننا-نحن من لا نملك المال أو السلطة أو النفوذ-قد نستشعر العجز أمام موقف ما، خصوصا أمام ما يحدث في هذه الآونة من جرائم لا حصر لها، لكن الحد بين العجز كفلسفة حياة والعجز الذي يحثك على محاولة فعل شيء، رفيع جدا. فمن يتبرع ببضعة دراهم أو دولارات لأجل قضية ما، قد اختار عملا بسيطا يصب في نهر أكبر وهو التغيير قدر الاستطاعة وليس السكون، وكذلك من تبرع بوقته وجهده..

قد يرى الناس هذه الأمثلة ضئيلة جدا مقابل ما يجب القيام به، لكنها أكبر من ذلك بكثير حين تقوم شعوب بأكملها بنفس العمل البسيط، حينما تتبنى الفكرة أعداد كبيرة تكبر النتيجة حتما. وكذلك حين تتبنى الشعوب الانزواء كفلسفة حياة تصبح مجتمعاتٍ عاجزة تتفشى فيها شتى الأمراض والفجائع. فكما يستسلم الجسم حين يقتنع صاحبه أن الموت محتوم فيموت صريع أفكاره التي أيقن بها، تندثر الحضارات والشعوب حين يعجز أفرادها ويستسلمون لبؤسهم ويتعايشون معه في سلام. وفي سياقنا، يرضون به على أن لا مفر ولا سبيل إلى نور أو آفاق جديدة.

ماذا ننتظر من شعب منكسر وميت من الداخل، يتأرجح بين أمل زائف وإحساس دفين بالعجز والهزيمة؟ هذا ربما يكون أسوأ مصير قد يلقاه المرء. فالعيش تحت ظروف قاهرة والاحتفاظ بالإحساس بالكرامة والإرادة والإيمان، ولو الشيء القليل منهم، ربما أطيب من العيش مع بعض الأمان لكن عاجزا مهزوما خانعا، وهنا سيختلف معي كثيرون..

لقد استسلمنا طويلا للعيش في منظومات وقوالب صنعت لنا، وسلكنا نفس الدرب الذي سلكته أجيال قبلنا. وشعرنا بنفس العجز وبنفس اليأس وتأملنا نفس الغد وانهزمنا أمام نفس الأوضاع. لكننا لم نفعل شيئا ولم نحرك ساكنا ولم نغير نسق الأفكار الذي توارثناه، وهذا يجعل منا شعوبا عاجزة ويتيمة الأحلام ومنعدمة المستقبل "جينيا"، اللهم بعض الطفرات. وسيبقى الحال على حاله ما استكنّا وعجزنا وانهزمنا وسَلّمنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.