شعار قسم مدونات

المتواصل الرقمي: من القراءة إلى المسح

blogs - read

على الرغم من دخول الرقمنة في شتى مجالات الحياة خلال الربع الأخير من القرن الماضي، إلا أنها لم تهيمن على التواصل الإنساني القائم على القراءة، مثلما يحدث الآن بعد أن تراجعت عملية قراءة المطبوعة لفائدة قراءة الشاشة. فقد تغيرت عادات القراءة بسبب انتشار الشاشات التي نجدها في الأجهزة الرقمية بدءاً من شاشات العرض الكبيرة مروراً بشاشات الحواسيب المكتبية والمحمولة والأجهزة الكفّية والهواتف الذكية وصولاً إلى شاشات الساعات الذكية.

إن كمية الرسائل التواصلية المعروضة للقراءة فاقت قدرة الناس على القراءة حتى وإن تم الاكتفاء بالمرور على العناوين، إذ تكاد جل الرسائل التواصلية التي كانت مودعة بين طيات الورق، تجد طريقها إلى الشاشات عبر التصوير المباشر (بواسطة الكاميرات المدمجة في الأجهزة المحمولة الذكية أو الماسحات الضوئية) وإعادة الطباعة والحفظ الرقميين.

يُلاحِظ من عاصر فترة ما قبل الثورة الرقمية التي أحدثت تحولاً جذرياً في فعل القراءة من المطبوعات إلى الشاشات، كيف بدأت متعة القراءة تضمحل بعدما كانت المطبوعة تكاد تتفرد من خلال ورقها (برائحته المميزة ولونه) وتصميمها وحجمها وأثر بصمات القراء عليها.

من أهم أسباب اضمحلال متعة القراءة، يمكن الحديث عن:

لابد من تبني مفهوم الوسائط المتعددة في التواصل الفعّال بإيجاد مكافئات بصرية للرسائل التواصلية النصية من خلال الاستعانة بالرسوم المعلوماتية، والاستعانة بالصور المقالية التي تعرض الأحداث عبر مجموعة من اللقطات المتتابعة والغنية بالمعلومات.

تدفق النصوص بما يفوق طاقة القراءة والحيز الزمني المتاح للمتلقي؛ ووفرة الوسائط المغنية عن القراءة (كالمقاطع الصوتية والفيديوية، والعروض النصية والصورية المتحركة)؛ وتراجع الموقف من القراءة باعتبارها وسيلة رئيسة لاكتساب المعرفة، في وجود التكنولوجيا التي توفر الحلول الجاهزة في مجالات شتى (على سبيل المثال: ما يقدمه موقع اليوتيوب لمن يريد تعلّم شيء ما أو يكتسب مهارة ما).
 

يشير مفهوم المسح إلى المرور السريع على الوثائق النصية بغية تحديد مدى استحقاقها لجهد القراءة من خلال الاعتماد على العناوين والصور والبحث عن بعض الفقرات التي قد تتضمن زبدة النص. هكذا تتعامل العين مع النصوص وكأنها صور لا ضرورة للإحساس بها بكيفية خطية (من اليمين إلى اليسار -أو العكس- ومن أعلى إلى أسفل)؛ كما أن ضيق الوقت لا يدع مجالاً لمؤانسة الكلمات والتوقف عندها ومحاولة قراءة ما بين السطور باعتباره ترفاً في ظل انهمار الرسائل التواصلية (من شبكات التواصل الاجتماعي، والبريد الإلكتروني، ومواقع الويب، فضلاً عن البيئة المحيطة).

يبدو أن وسائط الصوت والفيديو باتت أوفر حظاً مقارنة بوسيط النص. ففي حالات ملفات الصوت ومقاطع الفيديو التي يتم تداولها -خاصة عبر شبكات التواصل الاجتماعي- يضطر المتلقي لفتحها قبل الحكم بأحقيتها للتلقي أو التخطي، إلا إذا صاحبها نص يبين محتواها أو صورة أيقونية تشير -ظناً- إلى محتوى مقطع الفيديو، عندها يمكن تخطيها.

لقد تفشت ظاهرة المسح لدرجة أصبح بعض المتواصلين يمررون رسائل أو يتفاعلون مع أخرى دون الانتباه للسياق الذي وردت فيه. فكم من خبر أو قصة يتفاعل معها الماسحون ردحاً من الزمن إلى أن يأتي قارئ فينبههم إلى قِدَم هذا الخبر أو القصة؛ كم من مهنئ ينسى أنه هنأ في المناسبة ذاتها قبل سنة أو شهور لأنه لم يقرأ تاريخ النشر.

هناك مجموعة من الأسباب التي قد تضطر المتلقي للجوء إلى المسح، بدلاً من القراءة الكاملة للنصوص في البيئات الرقمية التي تتعدد فيها الشاشات وتتعدد أحجامها، نذكر منها:
1 – طول الرسالة النصية: بحكم صغر الشاشات التي يشيع استخدامها في التلقي -وفي مقدمتها شاشات الهواتف الذكية- ومرونة العرض التي تجعل النصوص تتواءم مع عرض الشاشة وارتفاعها فتصبح قابلة للتحريك إلى أسفل وأعلى، تبدو النصوص طويلة حتى وإن كانت في واقع المطبوعات تحتل صفحة واحدة أو جزءاً منها. هنا يضطر المتلقي لتطوير آلية لالتقاط بعض الكلمات المفتاحية التي تشير إلى المضامين وذلك أثناء تحريك النص إلى أسفل أو أعلى ماراً مرور الكرام.

2 – عدم تقديم النصوص بطريقة إخراجية تساعد على تجزيئها ومن ثم سهولة التعاطي معها: باستخدام الفقرات وتنسيق بعض الجمل أو العبارات أو الكلمات بتلوينها أو إمالتها أو تغليظها أو التسطير تحتها أو تأطيرها.

3 – آفة التمرير وما يتبعها من تكرار لرسائل تواصلية قد تأتي من جهات متعددة: فهناك من أدمن تمرير الرسائل الواردة إليه باعتبارها ممارسة تواصلية اجتماعية واجبة (كإفشاء السلام)، دون مراعاة ما قد يصيب الطرف الآخر من جراء إفراط التلقي.

المعرفة لا تأتي من فراغ، الوصول إلى المعرفة المثمرة يتطلب جهداً وجلداً يقاوم إغراءات فيضانات البيانات والمعلومات التي تسمح بها التكنولوجيا الرقمية.

4 – هوية المصدر: والتي قد تتناسب عكسياً مع المسح. فكلما كان المصدر موثوقاً به وصاحب سلطة معرفية، قل المسح وحلت محله القراءة، والعكس بالعكس. ويتضمن مفهوم السلطة المعرفية في هذا السياق، أن يكون الملقي هو مصدر الرسالة التواصلية سواء كانت وثيقة أو نص مكتوب؛ وأن يكون قد عُرف عنه التواصل لدوافع إخبارية (أي لديه معلومات جديدة يريد نقلها للطرف الآخر أو لديه تساؤلات تحتاج إلى إجابة). إلا أن هوية المصدر لوحدها لا تدفع المتلقي -بالضرورة- إلى قراءة ما يرده، بل تحتاج إلى دعم يتمثل في مدى اهتمام المتلقي بالموضوع الذي تتناوله الرسالة التواصلية.

5 – التغيير الواضح الذي حدث في منظومة التواصل الإنساني التي كان يتمايز فيها الملقي عن المتلقي بوضوح، ليصبح التمييز بينهما غير ميسور. فقد مكنت شبكات التواصل الاجتماعي عامة الناس من القيام بدور الملقي من خلال التفاعل المكثف مع ما يتلقونه. فالقارئ التقليدي أصبح كاتباً، وقد يكتب أكثر مما يقرأ خلال عمليات الدردشة التي قد تستمر لساعات. والنتيجة: تقلص الوقت المتاح للقراءة.

قد يتساءل المرء عن مستقبل المعرفة في عصر المسح، خاصة فيما يتعلق بالقضايا والمباحث التي تتطلب جهداً مقدراً في التلقي بسبب تعقيدها أو زخمها المعرفي. هنا يمكن القول إنه لكي يستمر الإبداع المعرفي لابد من ابتداع طرق جديدة في تقديم الرسائل التواصلية المقروءة تتيح إمكانية الوصول إلى خلاصات الرسائل التواصلية مباشرة دون جهد الاستخلاص الذي لم يعد متاحاً للغالبية بحكم تعودهم على المسح، وبحكم ضيق الوقت المسموح للتفاعل مع سيل الرسائل التواصلية الذي لا يتوقف.

لابد من تبني مفهوم الوسائط المتعددة في التواصل الفعّال بإيجاد مكافئات بصرية للرسائل التواصلية النصية من خلال الاستعانة بالرسوم المعلوماتية، والاستعانة بالصور المقالية التي تعرض الأحداث عبر مجموعة من اللقطات المتتابعة والغنية بالمعلومات.

إنه لتخوف مشروع أن تتنامى ظاهرة المسح وتسود فتضمحل معها قدرة الإنسان على التعمق المعرفي، خاصة عندما تعم هذه الظاهرة النخبة التي تنهض بعملية النظر في مآلات البشرية وإنتاج الأفكار والنظريات الكبرى. ذلك أن المعرفة لا تأتي من فراغ، الوصول إلى المعرفة المثمرة يتطلب جهداً وجلداً يقاوم إغراءات فيضانات البيانات والمعلومات التي تسمح بها التكنولوجيا الرقمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.