شعار قسم مدونات

البالونة

blogs- بالونه

الكل يعرف أن البالونة كلمَّا انتفختْ شغلتْ حيِّزاً أكبر وعَلَتْ مع أنها لا تحوي بداخلها إلا الهواء والهواء فقط، كذلك هي الظاهرة التي نُريد أن نتحدث عنها.


تجد الكثير من الشباب يحفظون كمية مهولة من المصطلحات الفلسفية من أمثال : أيدولوجيا، دغمائية، برغماتية، الديالكتيك، وهلم جرا، كلَّما حفظ أحدهم مصطلحاً منها انتفخ وعلا، وظن أنه بلغ من العلم مبلغاً عظيماً، فما من حوار يُدار بقربه إلا وحشر فيه أنفه، يَسألُ ويُجيب بنفسه، يفتح القضية تلو الأُخرى ليُدلي فيها برأيه السديد الذي لم يسبقه إليه أحد – كما يعتقدُ طبعاً – يُصعِّر خده للناس، يُحاول جاهدا أن يُحشو كلامه بهذه المصطلحات حتى وإن كان سياق الكلام لا يتحمَّلها.


بل إن الطامةَ الكبرى أنه في أحايين كثيرة لا يعرفُ عن هذه المصطلحات إلا كيفية نطقها، وفي هذا أذكرُ أنه في إحدى الدورات عن نظرية المعرفة رفعتْ إحدى الأخوات يدها لتسأل، وفي أثناء كلامها لاحظَ المُحاضر أنها تحشو كلامها بالكثير من المصطلحات الإنجليزية، فاستوقفها وسألها عن معنى أحد المصطلحات التي ذكرتْها، فكان الجواب: لا أعرف.


دائماً ما يستعينون في نقاشاتهم بالصراخ والشتم والتعريض بالآخر ليُعوِّضوا بها غياب الحُجَّة، غالباً ما يتبنُّون الأقوال الشاذة حتى تتوجه إليهم أنظار الناس، يعشقون الهدم ولا يبنون، يُعانون من متلازمة أُحادية الحل، وغيرها من الصفات.

ولمَّا كان العقل الجمعي العربي واقعٌ أيضاً تحت سلطة المصطلحات الغامضة، وصارتْ درجة الوعي عند غالبية الناس تُقاس بمقدار ما يحفظ المرء من أسماء مُفكِّري الغرب والمصطلحات الفلسفية، باتت هنالك أرضيَّة خصبة لتفشِّي هذه الظاهرة، بل وللأسف أصبح المجتمع يُصدِّر كل من في ركْبِها و بلغةٍ أُخرى صار هو من ينفخ البالونة، غير مُدرك أو ربما متجاهل لتبعات هذه الظاهرة على النفس والمجتمع.


من خلال متابعتي للكثير من الشخصيات التي أظنُّ أنها من ضحايا هذه الظاهرة، لاحظتُ أن هنالك العديد من الصفات المشتركة التي تُميِّزهم عن غيرهم، منها: أنهم عادة ما يميلون إلى الغموض في حديثهم، يُحاولون دائماً إثارة الخلافات، يلهثون وراء المجريات -الأحداث- بكافة أنواعها؛ فهي عصاهم التي يَتَّكِئُونَ عليها، مُذبذبين دائماً لا يستقرُّون على حال فمرةً تراهم مُتلبِّسين بلَبُوس الإسلام، وأخرى مع الحداثيين، وثالثة مع العدميين، وهلم جرا حيثما قِيدوا انْقَادوا تماماً كالبالونة حيثُما وجَّهتها الريح اتجهتْ، يُكثرون من وصم مجتمعاتهم بالرجعية و "الدُغمائية" …الخ.


أغلبهم لا يقرؤون وإن قرأوا يقرؤون الكتب التي حولها الكثير من الجدل أو الغامضة وفي هذا لازلتُ أذكر ذاك الشاب حينما مدَّ لي كتاباً -وهو يبتسم- ثم قال: "هذا ما أقرأه هذه الأيام، أتحداك أن تفهم منه جملة" عندهم قَدْر عالي من الذاتية، دائماً ما يستعينون في نقاشاتهم بالصراخ والشتم والتعريض بالآخر ليُعوِّضوا بها غياب الحُجَّة، غالباً ما يتبنُّون الأقوال الشاذة حتى تتوجه إليهم أنظار الناس، يعشقون الهدم ولا يبنون، يُعانون من متلازمة أُحادية الحل، وغيرها من الصفات.


إن البالونة مهما انتفخت مصيرها في النهاية إما أن تنفجر مُصدِرةً ذلك الصوت العالي كاشفةً عن حجم ذاك الفراغ الذي كان يُحوِّطُه الغشاء الخارجي (الجميل) أو أن تذْبُل بمرور الزمن حتى تعود لشكلها الطبيعي قبل النفخ، كذلك هي حالُ ضحايا هذه الظاهرة – إذا أصرُّوا على المواصلةٍ فيها – فإما أن ينكشف جهل المرء وخواء فكره إثر نقاشٍ دار بينه وبين أحدٍ ما، أو حتى إذا بلغ أرذل العمر أدرك حقيقةَ نفسه، ومن الناس من يُدركه الموت قبل أن يُدرك ذلك، وإن المُستحضِر لحقيقةِ أنه سيُسألُ يوم القيامة عن (عمره) فيما (أفناه) لَيَتَرفُّعُ عن أن يُضيع عمره في مثل هذا .


وفي نهاية المطاف، يقول النبي ﷺ: "لا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ ولا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ وَلا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ" .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.