شعار قسم مدونات

الأزهَر.. سَدُّ ثغر أم سَراب؟

blogs - الأزهر
"وبعد أن رحل وقبل، لم أستطع حصرَ ما قدمه لي، لكنه بعد أن أزهَرَني أزهَرَني" إلى أبي الذي أزهرني

الأزهر الذي يُسَدُ به الثَغر:
لم يقف شيوخ الأزهر فقط للتصدي لأعداء الدين بل لأعداء الوطن ومن يستهدف وحدته وسلامته من احتلال واستعمار، فكان مهد الثورات وملاذ العلماء، فجمع بين العلم والعمل، فنجده شوكة في حلق الاحتلال الفرنسي لمصر، فعمل شيوخه على إنشاء ديوان الثورة -ضد المحتل الفرنسي- في الجامع الأزهر، وانعقدت فيه جلساته، وبعد ضرب الثورة التي كان يُعِد لها استمر هذا التنظيم، واستطاع أن يُعِد للثورة الثانية بل ونظم اغتيال القائد العام للحملة الفرنسية " الجنرال كليبر " الذي قتل على يد سليمان الحلبي وكان حينها طالباً في الأزهر، وكان طبيعياً حينها أن تكون اللجنة التنفيذية لهذا الديوان شيوخ الأزهر لأنهم -حينها- كانوا القيادة الشرعية للأمة.

مثَّلَ هذا الديوان مجلس المقاومة الوطنية الذي قاد أول ثوره ضد الاستعمار الغربي وقاتل أقوى جيش في العالم -وقتها- ودفع أعضاؤه ثمناً باهظاً في أول وأشنع مذبحة استعمارية عرفها الوطن العربي، فقد أعدم نابليون ثمانين عضوأ من أعضائه مرة واحدة، وعلة حكمه "بأنهم كانوا قوماً ذوي تفكير عنيف متطرف" فهؤلاء كانوا بصدق نواب الأمة وقادتها.

لم يكن الأزهر الذي صبَّ نابليون نيران الثورة عليه، يمثل فقط القيادة المباشرة لثورة أكتوبر 1798 بل كان يقود الأمة كلها، تاريخياً وواقعياً ومستقبلاً، لذلك كان الحقد عليه والتركيز على سحق الأزهر مسجداً وجامعة ومشايخ ونفوذاً، فأيقن نابليون خطر الأزهر على حملته فضرب الأزهر بالقنابل من الظهر إلى المساء وأمر بإبادة كل من في الجامع، يقول الجبرتي "وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته -الجامع الأزهر- وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وهشموا خزائن الطلبة… ودشتوا الكتب والمصاحف..". 

أدرك محمد علي كيف واجه الأزهر ورجاله المحتل، فلم يرد أن يوزايه سلطة أخرى تقيده أو تزجره، فقام على الحد من نفوذ رجاله والقضاء على قدرة شيوخه في التأثير في الحكومه في وقت كان لا يخفى على أحد قوة الأزهر وهيبة شيوخه.

كانت هذه أول مرة في التاريخ يٌقتَحَم فيها الأزهر على هذا النحو، فلم يكن حينها ميدانُ جهاد الأزهر قاصراً على عدة فتاوى نرددها سنوياً ولا نمل من ذكرها (هل يجوز تهنئة أهل الذمة بعيدهم وما دليل ذلك) فلم تكن تلك هي ميدان جهاده وجُلَّ ما يقدمه ولم يكن ذلك هو الثغر الذي يرابط عليه الأزهر، فتأثرت عامة الجماهير بذلك لأنه كان رمز عزتها ومركز زعامتها فكان "ليس مجرد مسجد"، فأيقن ساسة العدو -في الداخل والخارج- أن سحق مكانة الأزهر كان ولا يزال أمراً لا بد منه ولما لم تنجح الأداة العسكرية الفرنسية في غزوه وأيقنوا أن الأفكار لا تواجه بالرصاص، لجأوا لأساليب أخرى تنفذ ما ترجوه.

بداية السقوط … تَشَتُت رؤيه:
إذا أردت تحرير أمة فاحتفظ بتسعة أسهم للخونة وواحد للعدو، فلولا خونة الداخل ما تجرأ عليك عدو الخارج. بالفعل قد خانوا الأمة منذ أمد بعيد وأصابوا ولم يخطئوا، فالذي قلَّصَ مكانة الأزهر وقيد دوره بأن أصبح مدرسة جدران لا مدرسة فكر، والذي أحاد به عن رسالته وحفظ الدين والأمة لم يكن المستعمر، فبعدما انسحب الفرنسيون من مصر، أدرك محمد علي كيف واجه الأزهر ورجاله المحتل وكيف صنعوا الثورة، فلم يرد أن يوزايه سلطة أخرى تقيده أو تزجره فقام على الحد من نفوذ رجاله والقضاء على قدرة شيوخه في التأثير في الحكومه في وقت كان لا يخفى على أحد قوة الأزهر وهيبة شيوخه وقدرتهم على سياسة الشعب وحفظ الحقوق. تعمد محمد علي أن يولي المناصب في الحكومة لغير من تعلموا به، وأرسل بعثات الطلاب إلى فرنسا -فيما لم تمر سنوات على احتلالها لمصر- بهدف تكوينهم تحت نظام تعليمي غربي ليؤسس نموذجا مماثلا يتجاوز به الأزهر!

في أعقاب أحداث 1952 وسقوط الملكية تم فصل التدريس عن الجامع الأزهر لجواره في مكان مستقل؛ فلم يعد المسجد بمثابة مدرسة، ثم أعقبه إنشاء كليات رسميه داخل الأزهر ثم إصدار قانون بإنشاء كليات علميه وتغيير مناهج التدريس به، مما أدى إلى اختلاف الرسالة المنوط بها، وقد واصلت السلطات الحد من نفوذ علماء الأزهر وشيوخه، فبدأت بتأميم الأوقاف ووضعها تحت سلطة جديدة سميت باسم وزارة الأوقاف، مما قطع من قدرة المسجد للسيطرة على الشؤون المالية، وألغيت المحاكم الشرعية وأصبح لرئيس مصر سلطة تعيين شيخ الأزهر فصار ذراعاً للسلطة.

وهكذا تقلص دور الأزهر شيئاً فشيئاً عبر الأنظمة العسكرية المتعاقبة التي أيقنت أن جمح الأزهر وإبعاد علمائه وحيادته عن رسالته هي الطريقة الأمثل لئلا يُرجى منه خوف ولا يصنَع ثوره، فهل هناك تقلص لدوره أعظم من ذلك؟

إن أولى خطوات تغيير الأمم ونهوضها تبدأ من علمائها ومعلميها، فكيف بطالب علم غايته التحصيل دون الإدراك وبمعلم غايته التلقين دون الإفهام أن ينهض بهذا الصرح أو يعيده لمكانته؟

الأزهر.. هل يكون سراباً:
قال أمير الشعراء في مدح الأزهر
وَاِخشَع مَلِيّاً وَاِقضِ حَقَّ أَئِمَّةٍ    ***   طَلَعوا بِهِ زُهراً وَماجوا أَبحُرا
كانوا أَجَلَّ مِنَ المُلوكِ جَلالَةً     ***   وَأَعَزَّ سُلطاناً وَأَفخَمَ مَظهَرا
زَمَنُ المَخاوِفِ كانَ فيهِ جَنابُهُم  ***   حَرَمَ الأَمانِ وَكانَ ظِلُّهُمُ الذَرا
مِن كُلِّ بَحرٍ في الشَريعَةِ زاخِرٍ ***   وَيُريكَهُ الخُلُقُ العَظيمُ غَضَنفَرا
لا تَحذُ حَذوَ عِصابَةٍ مَفتونَةٍ      ***   يَجِدونَ كُلَّ قَديمِ شَيءٍ مُنكَرا

حدثني شيخي -عندما كنت أحدثه عن مقرر الفقه في دراستي الثانوية الأزهرية- بأن مقرره كان ضعف مقرري فتعجبت، والآن أُحَدِث طلاب الأزهر عن مقرري الذي كان ضعف مقررهم فيتعجبون، تسألهم عن نصاب الزكوات فيجيبونك، وإذا سألتهم عن مقدار الزكاة في قدر معين لا يعرفون! إن جعل علوم الدين جسراً تعبر به لنيل درجات في دراستك ووظائف لمستقبلك لا يدل على أي أمل مرجو، فكما أن العلم حِصن فإنه أحياناً يكون سهماً مسموماً يخترق عقول أصحابه إذ لم تُحَصِن نفسك من نفسك والشيطان، والتحصين يكون ممن يعلمك أولاً بتملكه أدوات هذا العلم وتعليمه، وقد عانينا من التلقين دون فهم أو نقاش وهو ما أدى لبعض المنتسبين لهذا الصرح العظيم أن يضلوا السبيل بالإفراط أو التفريط.

إن أولى خطوات تغيير الأمم ونهوضها تبدأ من علمائها ومعلميها، فكيف بطالب علم غايته التحصيل دون الإدراك وبمعلم غايته التلقين دون الإفهام أن ينهض بهذا الصرح أو يعيده لمكانته؟ وهذا ما وقع فيه الأزهر، ويستحيل معه أن يعيد أمجاده لأن أولى الخطوات أُفسدت، فصارَ الأزهر كمن يقدم لك حديداً وعليك ترسيمه وكيف وأنت لست من المتفننين!، فإذا شَكلتَه أحرَقَكَ أو هَلَكَ، فهل يصح مقارنة شيخ العمود – كان لكل عمود في الجامع الأزهر شيخاً يلتف حوله طلابه – بمدرس الفقه الذي يلعَنُ ويُدَخِن !
فهل تعود للأزهر مكانته بعد اندثارها وهل يسد به الثغر مرة أخرى أم فُقِدَ هذا الأمل ؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.