شعار قسم مدونات

إلى كلِّ باحـثٍ عن الحَقيقـة..

blogs - path
ربَّما واحدة من أكثر الأمور فزعَاً وإخافةً على الإطلاق تلك التي ينظُر لها المرءُ يقيناً بعين الثوابت وهي في بُعدِها عن الحق كَمَثلِ البُعدِ بينَ المشرق والمَغرِب. والأكثرُ إيلاماً يكمنُ فيمن ضلَّ السَبيل بينما هو غارقٌ في غفلةٍ عريضةٍ عن دراية ذلك. ولعلَّ حقيقةً ما يُرى اليوم من تزييفٍ بَيِّن وتدليسٍ صارخٍ لكثيرٍ من الحقائق هو سبب تلك الغفلة التي تقف كالغصَّة في الحُلْقُوم.
 

فأصبَح الناسُ جيلاً عن جيلٍ يتوارثون فيما بينهم مُعتقداتٍ خاطئةٍ وأفكار دخيلةٍ تُبَثُّ بثـَّاً إلى أن يُولد الإنسان منَّا ليظل من المهد حتَّى اللحدِ حصناً منيعاً لمُعتقداتٍ هو لا يعلم يقيناً صِدقها من زيفها، فقط لإنَّ هذا ما وجد آباءه من قبل يفعلون وهنا حقيقةً ما يغيب فيه المنطق عن التفسير.
 

ما دمُت تطرحُ على نفسك أسئلة تنُمُّ عن شكٍ في تقبُّل أمرٍ بعينهِ كثابتٍ، فهُنا لابُد وأن تُكمل المسير؛ لإنَّ ما من شك مُظلمٍ وإلا وفي آخر نفقه يقين ساطعٍ كنورِ الشَمس في صبيحة النهار.

حتَّى زمننا هذا وفي ظلِّ تطوُّر وسائل البحث ما زال يُصر الكثيرون منَّا على التعامل مع عقولهِم بطريقةٍ غير سويَّة. فاللَّه لم يخلق الإنسان منَّا كي يكون وظيفة عقلِهِ هي فقط تحصيل علمٍ ما دون تَحَرِّي صحة هذا العلم. فالعقل لم يُوهَب لنا فقط لتقبُّل مُحتويات العلم الديني أو الدنيوي كثوابت دون تساءل منَّا حول تلك المُحتويات. فما الذي يضمَن للمرء على كل حالٍ أن كلَّ ما توارثه عن آباءه صحيحٌ لا يُقبل فيه الشك إلا بالنهل في كافة ألوان المعرفة ومُجاهدة النَفس للوصول لقَبَسٍ من نور الحقيقةِ خالصٍ يُطَمْئن القلوب.
 

وممَّا يُثير نَزَعَة الدهشة هو أنَّ كل طائفةٍ من بني آدم تتشارك فيما بينها مُعتَقَدَاً بعَينِهِ سواء دينياً أو دُنيوياً، وبطبيعة الحال ذاك المُعتقد يكونُ مُغايِراً تماماً عن الطوائف الاُخرى. وما يُحَفِّز هاجس البحث عن الحقيقة هو أنَّ الكلُ يدَّعي أنَّه الصواب ومن يُخالِفُهُ إما يرتقبه عذاب أبدي في الآخرة ذلك على الصعيد الديني أو إما يرتقبه أشد أنواع البؤس والذل وذلك على الصعيد الدنيوي.

ويُرى فيما قد سَبق ذِكرهُ من طوائفٍ أن تصنيف البشر من حيث أمورٍ عقائدية منها الدينية أو مسائل دنيوية ينقسم إلى خمسة أصناف.
الصِنفٌ الأول: صِنفُ يعلم يقيناً بفِراسَةٍ وبنورٍ من اللَّه أنَّه يتَّبع الحق المُبين.
هؤلاء على الأغلب يكونون من المُرسَلين والأنبياء ويليهم الصالحين والصادقين من عبادِ اللَّه. وليس بعجيب أن يكون هؤلاء هم أولوا الألبابْ الذين وسَّع اللَّه مداركَ عقولهم ورزقهم من لَدُنِّه عِلماً، فمن على شاكلَة هؤلاء مِقدارُهُم أثمَنُ من جبلٍ مُرصَّعٍ بالذهبِ الخالِص.
 

الصِنفُ الثاني: صِنفُ تحاوطُهُ الشكوك من كل حدبٍ وصوبْ ولكنَّه في الأخير يَصل لبرِّ الأمان.
أما هؤلاء فهم من يتفكَّروا في كل صغيرة وكبيرة سائلينَ إجاباتٍ صادقة بنيَّة الطمأنينة والبُعد عن جنبات الضلال. وذلك كان حالُ إبراهيم – عليه السلام – حينما كان يتفكَّر ويتدبَّر عمن هو ربُّهُ "فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين". ولإنَّ الصادقين في مَطلَبِهم يُصادِقُهم الرحمَن في إتقادِ بصيرتهِم فاللَّهُ قد صَدق وَعده حينما قال "وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ". فإن كُنت تسير على خُطى ذلك الدَربُ فلا تنحرف لأنَّك على مشارف الوصول ولكن إن انحرفت فُهنا ستنتمي للصِنف الثالث!
 

الصِنف الثالِث: صِنفٌ تُحاوطِهُ الشكوك ولكنَّه يُفاضِل شُكوكه على حساب الحقائق.
ويكونُ ذلك عن طريق إجاباتٍ غيرُ مُنصفةٍ لشكوكهِ تخدم ما يُريد هو أن يُصدِّقه، لا ما هو حقيقةً عليه. وهؤلاء كمَن يخرجون من النور إلى الظُلمات فيمضون بقية حياتهم في نَفَقِهم المُظلم مَعصوبي العينين مُتخَبِّطين في ظلال ضلالهم. فمن على شاكِلَة هؤلاء يأبى أن تنفتح عيناه على الحقيقة خشية أن تتصادم مع أهوائه فتجعلُها هباءاً منثوراً.
 

الصِنف الرابِع: صِنفٌ ليس على الحق ويظن أنَّه يتبع الحق.

إن أردت صدقاً البحث عن الحقيقة حينئذٍ سيتوجَّب عليك أن تفتح عينيك على كل ما يتماشى ويتصادم مع معتقداتك في نفس ذات الوقت.

أمَّا هؤلاء فنسأل اللَّه أن يُنيرَ بصيرتهم ويفيضُ عليهم من واسع عِلمِهِ ويهديهم بنُورهِ إلى سبيل الرشاد. ومربط الفَرس هُنا هو الشَك في أمرٍ يُرى بالفِطْرَة مُبهمٌ ويختبئ خلفه الكثير من الإجابات. وكما ذكر الإمام الغزالي من قبل "الشَك أول مَراتب اليقين" وهُنا يُرى أن ما دمُت تطرحُ على نفسك أسئلة تنُمُّ عن شكٍ في تقبُّل أمرٍ بعينهِ كثابتٍ، فهُنا لابُد وأن تُكمل المسير؛ لإنَّ ما من شك مُظلمٍ وإلا وفي آخر نفقه يقين ساطعٍ كنورِ الشَمس في صبيحة النهار. وعليها فإن قَصِدت إشكالية ما بحيث ساورَك شَكَّ فيها، حينئذٍ لا تكُفُّ عن طرحِ أسئلتك ولا تخشى! فإن كان ما تؤمن به صدقاً هو الحق فكُن مؤمناً أنَّك ستجد إجابة تُريح قلبُك وتُطمئنه. وما يقعُ فيه الكثيرون هو أنَّهم يبحثون وراء شكوكهم من رؤيةٍ وجانب واحدٍ فقط فذلك لا يُعطي صَاحِب الشَّكِ إلاَّ أنصافاً من الحقائق فضلاً عن إن كانت حقيقةً من الأساس.
 

يُساورُكَ شكُ وتريد أن تعلمَ أينَ الحق؟ إذن، لا تكن ذو صاحبَ عِندٍ أعمى يُبصر بعينيه على ما يتوافق مع معتقده ويغضُ البصر عما يُخالِفه، هذا ليس ببحث عن الحقيقة. إن أردت صدقاً البحث عن الحقيقة حينئذٍ سيتوجَّب عليك أن تفتح عينيك على كل ما يتماشى ويتصادم مع معتقداتك في نفس ذات الوقت. ووقتئذٍ ستَدَعْ صِداماً من حَربٍ كاسِحة ينشُبُ بين المُعتقدين على أن تلتزم أنت صَفَّ الحِيادِ حتَّى تعلوا راية الحق وحتماً ستعلوا إحداهُما. في الأخير ما يُهمُّ هو تركْ الانحيازية جانباً والبدأ من نٌقطة الصِفر وحينئذٍ سيُلهمك اللَّه الصواب فقط لأنك كنتَ مُثابرَاً صَادقاً مع نَفسك وكان هَمُّك أينَ الحق كي يُتَّبع.
 

الصِنفُ الخامس: صِنفٌ ليس على الحق ويعلم طريق الحق ولكنَّه يستَكِبر.
أما هؤلاء من المُستكبرين قُساة القلوب فهم كالأنعامِ بل أضل سبيلاً، ومن على شاكِلَتهم ضالين مٌضلِّين ليس مَقصِدهُم إعلانُ حقٍ أو صِدقُ مطلبٍ ولكن أكثرُهم متفلسفين سُفسطائيين يعلمون الحق باطِناً ويطوِّعونه ظاهِراً كي يخدم مطامعهم القميئة. هؤلاء ممن يندرجوا تحت فئة المُنافقين والمُكابِرين أو حتَّى في عديد من الأحيان من أولي علمٍ كبيرٍ.
 

ومما سبق ذكرُهُ يستوجب بأن يُعلم أن المَعرفة هي نعمة عظيمة وأن نميْزَ بين طيبٍ وخبيثٍ لهي نعمةٌ أعظم. والأعظم على الإطلاق هو ألا تكون حياتنا مبينَّة على افتراضات وظنونٍ وإنما تندرجٌ تحت يقينٍ يُصاحِبُهُ قلبٌ مطمئنٌ يُرى هُدى الحقِّ فيهِ بالقَلبِ قبل سائر الجوانح. أمَّا من يحتذي بهواه ليتخذه فيما بعد سبيلاً فهؤلاء قد ضلَّوا من إتباعهم للظن، وفي الأخير "إنَّ الظنَّ لا يُغني من الحق شيئاً".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.