شعار قسم مدونات

"هالزلمة ما بينتسى يا ستّي"

مدونات - بكاء
ثانية في تاريخ عمرك قد تغيّر فيك ما تبقى من عمرِ، ولكن ما فائدة ما تبقى بعدما رحلوا؟ نعم هم رحلوا كان علي أن أتقبل فكرة أنهم رحلوا لئلا يتهمونني بالجنون ، لكني حقا لا زلت أراهم، هم رحلوا لكني أراهم فالعين ترى ما تحب دون أن تراه، وتسمع صوت من تحب دون أن تسمعه، نحن باستطاعتنا أن نكون خارقين إذا لزم الأمر.

أحاول دائماً أن أحيي صورتك في ذهني فأشرد لدقائقٍ تعَد لأني أبدأ بغربلة أحزاني إلّا أن فراقك يا جدي يبقي عالقا في حلقي، وأما أنا فتركت ما تسرب من الأحزان ،واحتفظت بفراقك الذي أفجعني.

كانت ليلة – وأعوذ بالله من هكذا ليلة – ما يسبق بداية عام جديد بيوم، يومها كنت أجالسك يا جدي كانت عيني تلحظ ملامحك الحية، كنت أحب تجاعيد يدك المباركة ولا زلت، وأحب نبرة صوتك التي تضمني بلحاف الأمان، وبعدها شردت، جلست بجانبك، كنت أقرب إليك مما مضى من طفولة، كنت أنت جدها وأنا حفيدتك، تلك الأيام التي كنت أراك فيها بمعنى الجد العظيم عندما كنت أتسابق لأن أقبل يداك مرارا وتكرارا وأركض بلهفة لأن أحمل عنك ما تحضره معك عندما تعود.

جلّ ما أراك في عيني جدتي، أراك ندبة فراق مكنون في قلبها، و عقيدة لن تتغير في بالها، أراك في صمت يجلس بيني وبينها بعد حديث طويل عنك فتنهيه قائلة: "هالزلمة ما بنتسى يا ستي"..

رحلت يا جدي ولم تترك لي إسما سميتني إيّاه فحسب، أنت تركت فيّ ما قد يميتني في كل فجر لأني أفتقد صوت قراءتك للقرآن فيه، و في المقابل تركت ما قد يحييني لسنين لا تعد من فرط ذكرياتي الطفولية والشابّة معك، تلك الذكريات التي على قدرها يكون وجع الفقد.

أذكر يا جدي بل لا أستطيع نسيان نظرتك لي عندما هممت لأن أعود للبيت، كانت نظراتك تودعني لا أدري أكنت ترى آخر ما تبقى من ملامحي التي ذبلت من بعدك؟ أم أنك كنت تناديني بنظراتك لأن أبقى، فيا ليتني بقيت، يا ليت ما وسوس لي كان يرغمني على أن أظل، تركتك في أمان جدتي وذهبت، ذهبت وأنا على يقين بأني سأستقبل صباح يومي التالي ببساطتك التي اعتدتها، وذهبت أنت لكن دون عودة…

كم كنت مخطئة، يا ليتني كنت أعرف خفايا الأمور، يا ليتني كنت أدرك أن القادم أكثر خوفا وحزنا، لا أحد يعرف ما معنى أن تستيقظ على خبر وفاة أعزهم مكانة في قلبك، الفجر الذي اعتاد صوتك وحفظ آثار قدميك كان نفسه يحمل عنوان رحيلك.

وكم أكره عناوين الأشياء، فالمضمون دائما أعمق وأشمل من أن نضع له عنوانا عاديا، صباح الخميس يوم وفاتك كما يتداولون، تاريخ نهاية إنسان وعام وبداية لحزني، حزني ذلك الذي لا تجرّه سرعة المياه وإنما يبقى كصخرة وسط النهر، تنوح في كل يوم لأنّها تفقد بالحتّ جزءا منها، وما أقدر الموت على أن يغير معالمنا، و ما أصدق من قال أننا لا نموت دفعة واحدة. 

أردد دائما ليتك هنا، ألا ليتك تسمعني لأخبرك كم هو قاسٍ رحيلك، أريدك لأخبرك كيف ما عادت السماء تزرقّ من بعدك، أرغب بأن أشكي لك رحيلك، أحتاجك في رحيلك، هل حقا أن الأموات يسمعوننا في قبورهم أم أنها كذبة اخترعها الناس كي يهونوا علينا شعائر الفقد؟ هم لا يعرفون أننا لا نكتفي بالحديث معهم في غيابهم وإنما ننتظر رداً منهم، رداً لا يأتي ونصطنعه نحن.

تشبهك الأشياء الجميلة النقية يا جدي، أنت تشبه آذان العشاء الدافئ في ظلمة الليل، تشبه الليالي الصيفية بنسيمها العابر، تشبه أول مطر يسقط في الشتاء، وتشبه الفجر الهادئ في سكونه ويشبهك أبي، يشبهك كثيرا.

ما أصعب ذالك الشعور عندما نشتاق لأحدهم لكنّنا ندري بأن حتى في المعجزات لن نراه، غالبا ما يبلغ الشوق فينا منتهاه فنتوه، أنا أتوه باحثة عنك فأجدك ولا أجدك، أجدك في ما تبقى حيا مما سقيت من الأشجار هذا إن تبقى، لكنّي جلّ ما أراك في عيني جدتي، أراك ندبة فراق مكنون في قلبها، و عقيدة لن تتغير في بالها، أراك في صمت يجلس بيني وبينها بعد حديث طويل عنك فتنهيه قائلة: "هالزلمة ما بنتسى يا ستي"..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.