شعار قسم مدونات

قربة وماء دجلة

blogs - نهر دجلة
اضطره الفقر والحاجة وشح السماء إلى البحث عما يلقمه أفواه صغاره ويدرك به رمقهم، وكان قد بلغ سمعه كرم ذلك الخليفة في بغداد وبلغ عجبه أشده من قصص وردت عن أناس أكرمهم فأراد أن يضرب بسهمه معهم.

كان قد سمع عن نهر دجلة ووصل خياله حد الهذيان فيه كيف يجري الماء العذب الزلال مسفوحا على الأرض وهو يبحث عنه في أعماقها ويضرب لأجله أكباد الإبل ليبلغ فاه وما هو ببالغه؟! فخشي أن يلهيه جمال النهر عن مقصده أو القصيدة التي أعدها لينثر أبياتها في حضرة الخليفة، فعقد العزم على بلوغ قصر الخليفة دون المرور بمحاذاة النهر كي لا يراه.

أصابه الذهول من ضخامة القصر وبذخه وارتفاعه وألوانه الزاهية وآنيته المذهبة، ولكن ذلك لم يلهه عن مقصده فألقى قصيدته أمام الخليفة، وظن أن أغلى وأنفس ما يمكن أن يهديه للخليفة حينها هو ما وهبته له السماء ذاتها التي جاء يشكو بخلها عليه، فتقدم بخطوات واثقة ومد يده اليمنى ليعطي الخليفة قربة صغيرة بها ماء المطر الذي غرفه من غدير في طريق قدومه، فما كان من الخليفة إلا أن تناولها منه وارتشف منها رشفة وجد بردها على شفتيه.

كانت المفارقة أن هذا الأعرابي شعر بالخزي الشديد من هذه الهدية التي ظن أن لا يعادلها في الدنيا شيء في نفاستها ونبلها عندما خرج من قصر الخليفة محملا بعطاياه منتفخة جيوبه من دنانيره، ونظر يمنة فرأى دجلة مسرعة مياهه لا يستطيع أن يبلغ بصره نهايته يجري شاطئه بجانب قصر الخليفة الذي سقاه للتو قطرات من الماء!

اذا لو كان حسن الظن وسلامة الصدر تجاه كل صاحب رأي هو الأصل في التعامل معه حتى يثبت عكس ذلك؟! أليس هذا أسلم صدرا وأنقى سريرة؟!

من يجول ببصر قلبه في هذه القصة ويتفحص جوانبها بعيني فؤاده لا يمكنه إلا أن يبلغ عجبه منتهاه من أمور عدة لعل من أهمها:

أن هذا الأعرابي رغم أميته وبساطته إلا أنه وعى درسا حياتيا مهما أن لا ينشغل عن هدفه بأمر يراه تافها أو قد يؤخره عن وصوله إلى غايته، حتى وإن كان شيئا غريبا يمر به للمرة الأولى في حياته، وقد لا يتكرر أو حكاية مدهشة سوف يظل يرويها لجيله والأجيال التي ستلحقه من بعدها.

لقد ظن هذا الأعرابي أنه أهدى شيئا عظيما، وكانت قناعته متماسكة مشدودة البنيان، لكنها ما كانت في الحقيقة إلا على شفا جرف هارٍ فانهارت مباشرة حين هبط بصره على دجلة المنساب ومائه الرقراق، فأحس بنيران الخجل تسري في عروقه كيف كان نظره قاصرا فلو أنه أرجع البصر كرتين لانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير.

قد يبدو ذلك للوهلة الأولى من سذاجة تفكير هذا الأعرابي أو قلة خبرته أو سوء تدبيره، ولكن القليل من التدبر فيما حولنا وفي دواخلنا، نجد أننا جميعا نمارس دور هذا الأعرابي عن قصد أو غير قصد، فكم قد كانت لدينا قناعات راسخة رسوخ الجبال الراسيات في أمور لا نقبل فيها النقاش أو التفكير أو الاختلاف ولكن بعد أن زاد اطلاعنا وزادت معرفتنا وعرفنا أننا إنما كنا نقف على أرض تمور، وقد كنا نظن أننا نقف على جلمود صخر.

اهتم بالثانويات، ركز بصرك على الفرعيات، قاتل من أجل الأمور التافهات، تنتج مجتمعا فاشلا، وتخرج جيلا تافها يرى في صغائر الأمور عظائما، ومن حبات الرمل جبالا شاهقة.

عندما تدور معارك عظيمة في وسائل الإعلام – المقروءة والمرئية على حد سواء – وفي وسائل التواصل الاجتماعي- على اختلاف أنواعها – ويتم اجتزاء بعض مقاطع الصوت والفيديو والصور، ويتم تحوير محتواها ليتوافق مع طرح المتحدث أو الكاتب، ويكون فرسان هذه المعارك – الافتراضية – أسماء وشخصيات إعلامية ومجتمعية تفوق شهرتها أسماء كواكب المجموعة الشمسية، فلا شك أن ذلك إنما يعبر عن طفولة فكرية عند هؤلاء القوم واستخفاف بعقول ورأي وتفكير المجتمع المعني بهذه القضية بأسره.

كل إنسان منا يمثل لوحة فنية رائعة الجمال بديعة الصورة زاهية الألوان لها من كل باب من أبواب الجمال نصيب، ولكننا انشغلنا عن هذا الجمال والإبداع بعيوب إطار هذه الصورة وقبح الأداة.

كم هي مفاجئة ردة فعل هذا الخليفة الذي قبل هذه الهدية المتواضعة لا بل وشرب منها تلطفا معه ولم يعظم في نفسه جبروت الملك وهيبة السلطة أن يلاطف هذا الأعرابي الضعيف ويقبل هديته، أين هذا اليوم من جبروت الملوك والسلاطين ونرجسية المثقفين وغرور أنصاف المتعلمين؟! الذين يسمون أول مخالف لهم بالتخلف والرجعية ووو… وسق كل ما يخطر ببالك من الأوصاف والنعوت المرادفة حقا كانت أو ظلما وبهتانا.

إلى أي شيء يرجع ذلك؟ أو دعني أطرح السؤال بطريقة مغايرة قليلا: ماذا لو كان حسن الظن وسلامة الصدر تجاه كل صاحب رأي هو الأصل في التعامل معه حتى يثبت عكس ذلك؟! أليس هذا أسلم صدرا وأنقى سريرة؟! (بت مظلوما خير لك من أن تبيت ظالما).

كل إنسان منا يمثل لوحة فنية رائعة الجمال بديعة الصورة زاهية الألوان لها من كل باب من أبواب الجمال نصيب، ولكننا انشغلنا عن هذا الجمال والإبداع بعيوب إطار هذه الصورة وقبح الأداة الحاملة لها وألغينا كل الجمال بها بسبب هذه العيوب.

هنا يطرأ في ذهني سؤال آخر: بمقابل الحرج الشديد الذي أحس به الأعرابي عندما وقع بصره على دجلة وعظم هذا الأمر في نفسه، وبقائه طوال حياته، كم استغرق هذا الأمر من التفكير في نفس الخليفة؟ كم من الوقت فكر به أو حتى فلنقل ضحك منه؟ لا شك أنه إن لم يكن للحظات بسيطة فهو لم يفكر به أصلا.

عزيزي… أنت أنت، وأنا أنا، لك ما تراه ولي ما أراه، عند استعظامك لأمر ما أو احتقارك له فليس بالضرورة أن أرى ما تراه أو أعتقد ما تعتقده، فكل منا له زاويته الخاصة التي ينظر منها للأمور، ونظارته الشخصية التي توضح له ما تراه عيناه، فهل ترى ما أراه؟!
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.