شعار قسم مدونات

حتى لا أُنفىٰٰ مرتين (1)

BLOGS- التدوين

قيمة الحياة عند الإنسان، تزيد كلما زادت قُدرته على التفاعلِ معها.. ففي الحياة البسيطة، كان العنصر الإنساني بقدرات حواسه المتاحة، يقود ذلك التفاعل، ويحدد نواتجه. لكن التعقيد الذي طرأ على الحياة جعلته يبحث عما يعزز قُدراته. فهنالك عناصر، تتواجد بحالةٍ رابعة، تختلف تماماً عن الحالات الاعتيادية، الصلبة، والسائلة، والغازية. يصعب على الإنسان استشعارها. فهي تحتاج إلى الإدراك، وتحتم عليه أن يبتكر حاسة سادسة.

هذه الحاسة السادسة تمثل ما يمكن تسميته، الجيل الرابع من الاستشعار، إذ أن التركيب النفسي للإنسان لا يختلف كثيراً عن تركيبة الأرض، وقد أشار إلى ذلك، ابن خلدون في مُقدمته. وناتج تفاعل الإنسان مع الحياة، قد تصاحبه انبعاثات مُدمرة، ستؤدي إلى ظاهرة تتشابه كثيراً في التأثير، مع ظاهرة "الانحباس الحراري". لكن بصورة معزولة.


التدوينة ليست تقريراً إخباريا، بل هي خارطةٌ لمسار سلكته بروحك، و فكرك، و صارعت فيه بهويتك، و ثقافتك، و تحديت من خلاله قوى الكبح الخارجي، فكل سَطرٍ يُكتب هُنَا على " مُدونة الجزيرة " هو مقدمة لما سوف يصبحُ تاريخاً.

و لكشف أسرار هذا الغموض، يجب أن نعرف طبيعة ذلك التعقيد، الذي يختلف تماماً من نصف إلى آخر في هذا العالم. ففي النصف الأول طفرة شاملة. زادت معها سُرعة الحياة، وأصبح التداخلُ مَسارا اعتياديا في فضاء الماديات. فالطريق الواصل بين مقر عملك ومنزلك، لم يعُد يحتوي على ذلك الكم الهائل من نقاط التوقف، والمشاهدة، والمُشاركة، بفعل التداخل المبتكر بين الكُتل المادية.


على سبيل المثال.. الانتقال بين أطراف المدينة المتشبعة بالحياة أصبح شبه ميتاً، فوسيلةُ التواصل (ميترو الأنفاق) مادةٌ، تداخلت مع مادةٍ أخرى (القشرة الارضية). لتطوى بينهما مساحات واسعة. كان العنصر الإنساني يملأها بوجوده، بعد إن يفرغها في دَلو الذات، ليشعر بالامتلاء. إذن فالحياة هُنَا تسير بأطراف اصطناعية. لكنها هي التي تُشْفِق على كلما ما يسير بأقدامه الحية.


وذوي الاحتياجات العامة، هم مَن يحتفظون بحواسهم الخمس، ويحتاجون إلى رعاية، كما تراهم عين الواقع، في محيط، يمكنك أن تعيش فيه بنصف حاسة تقليدية. إذا كنت قد تمكنت من صناعة حاستك السادسة. لذلك لا ينبغي أن تسأل لماذا ينام الجميع على متن ميترو الأنفاق، فقد عرفت الإجابة.

في النصف الآخر من العالم، تدور الحياة على العنصر الإنساني، كما أن طبيعة التداخل فيه، يكون بين الإنسان والمادة. فالحروب التي يقودها الإنسان جنب إلى جنب مع المادة (السلاح)، والحياة اليومية التي يطغى عليها العناء، والجهد المضاعف، والبؤس، ويتخللها الدمار. يقابله آثر نفسي مُدمر، ينال من هشاشة التكوين الإنساني. ليصبح أمر الحياة بخمسِ حواس فقط فعلٌ مُميت. ويتسبب بفقدان الكثير من التفاصيل المهمة.


فبينما ينامُ نظيرك الإنساني، في نصف العالم الآخر يَستقلُ هو ميترو الأنفاق ليصل إلى وَجهتهِ، أنت لا تستطيع النوم على سريرك كل يومٍ في وَقتٍ مُتأخر من الليل. لأنك ستفقد محطات حياتية لا يمكنك العودة إليها. كما يفعل هُو.. 
فاستيقاظك صباح يومٍ ما، على حقيقة وَطنٍ مفقودٍ، و ملامح مجتمعٍ متلاشي، و بما يمثلاهُ من أصل لكلما هو مادي و معنوي، حقاً أمر يشقُ على الإنسان. فالواقع يفرغ مقتنياته في الذات الإنسانية، حِينما يتعذر عليه فعل ذلك بما سواها. والمشاعر تفوق قدرة مُستقبلاتها السَوية، كيف بالمعتلةِ. و هذا الاكتظاظ الشديد، من شأنه أن يفتح قنوات تعبير أخرى، تتوسع مع مرور الزمن لتصبح بدرجة حاسة سادسة..


لأن النفي مَرتين، لا يجعلنا من دون وَطن فحسب، بل من دون إنسانيةٍ أيضاً، لقد جعلنا من التدوين، حاسة سادسة، نشنُ مِنْهَا غاراتنا الفكرية، على قيود الماضي التي جعلتنا أكثر بُطئاً، ومن مَحجرها الصلب نُلقم بُؤر التلاشي الإنساني حَجراً مُشبعاً نَهمها المُتصاعد، فالتدوين لا يحتاج إلى وَطنٍ، ينطلق منه، و لا تُحد من انتشاره جنسيةٌ ما، أو تحول دون وصوله إلى جُزء معين من العالم، حيثيات العِرق، و السلالة، أو تمنعه من المضي قُدماً قُدسية الدين.


التدوينة ليست تقريراً إخباريا، بل هي خارطةٌ لمسار سلكته بروحك، و فكرك، و صارعت فيه بهويتك، و ثقافتك، و تحديت من خلاله قوى الكبح الخارجي، فكل سَطرٍ يُكتب هُنَا على " مُدونة الجزيرة " هو مقدمة لما سوف يصبحُ تاريخاً.


إذا كانت هذه هي المُدونة، فالمدون لن يكون إلا مقاوما، عَفَت عَنْهُ البندقية، و شَاهدٌ بمنزلة شَهِيد، جَادَ بحبره حين جَادَ الآخر بدمه..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.