شعار قسم مدونات

جيل بلا دموع

blogs - بكاء
ربما يعتقد البعض أن قصة الطفل عمران الذي خرج من تحت الركام بنظرته التي أخزت العالم انتهت، ولكنّ الحقيقة أنه كان جزءاً من قصةٍ بدأت قبله ولم تنتهِ بذلك الجزءِ الذي ما كان لِيُسلّطَ عليه الضوء لولا بكاءُ المذيعة الأمريكية كيت بولدوان. من الموصل قبل أيامٍ مرّت بي قصةُ أنس، طفل آخر هربت عائلته من القصف على الساحل الأيسر، فسقط صاروخ على عائلته قطع أمعاءه ونقل إلى المستشفى، كان يحكي للكاميرة كيف شاهدَ والديه وإخوته يموتون أمام عينيه، وكعمران.. لم يكن يبكي.
 
ربما تبدأ القصة بطفل ولكنها لم تنتهِ بآخر، فهي مستمرة في حصادها طفولةَ الصغار، كما أنّ القصف على المدن ليس التنين الوحيد الذي ينفث ناره ليحرقَ مستقبل جيلٍ بأسره، فمأساة النزوح ورحلة الموت التي تخوضها قوافلُ من ضاقت عليهم الأرض والسماء لها طعم آخرُ لا تقل مرارته عن مرارة الموتِ تحت ركام المنازل، فكم من رضيعٍ في مخيم الخازر فقد أهله في أثناء الجري هرباً من مناطق الاشتباك وحقول الألغام عبر ممراتهم غيرِ الآمنة.

هل يكون جيل المخيمات جيلَ الخشونة الذي لا يملك ما يفاوض عليه، ولا يخاف خسارةَ حقّ أو يرغب في حياة؟

ومن شاء الاستزادة فمخيماتُ النازحين مليئةٌ بهذه القصص، وهذا النوع من الأطفال الذين فقدوا ذويهم أمام أعينهم وما لامست أصواتهم أسماعَ الشرفاء "إن وُجِدوا"، وكم من طفل قبل عمران تناساه العالم، وكم من بعده من تجاهلتهم الضمائر الشلّاء! وما الطفل السوري حمزة الخطيب منّا ببعيد. أمّا الأرواح الطاهرة التي ترحل بالجملة جراء غضبةِ مجرم وكبسةِ زرّ وقذيفة غاز سام، فما أكثرَها وما أطهرَها وما أعجز ضميرَ العالم عن القول: "بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ".

جيل المخيمات والمدن المدمرة شاهد بأمّ عينيه من الأهوال ما أدمى طفولتهم البريئة المحتجزة خارج الزمن، ولا تحمل ذاكرتهم المحشوّة بآثام الحرب سوى صورةٍ مرعبةٍ عن العالم خارج المخيمات البائسة. هذه القصة التي لما تنته بعد لها ما بعدها، فالسؤال الأهم هنا ليس عن النهاية لأوجاع الأطفال، ولكن عن الأثر الذي ستتركه تلك الأوجاع بعد أن يكبروا. فهل هم جيل الاستبدال الذي سيحلّ محلَّ جيلٍ يعيش في عالم افتراضي بين صفحات فيسبوك وتويتر، فيغرد هنا ويعلق هناك مكتفياً بهذا الدور في الحياة، ومتناسياً تردي الواقع وخرابَ المدن وضياع الحقوق؟

هل يكون جيل المخيمات جيلَ الخشونة الذي لا يملك ما يفاوض عليه، ولا يخاف خسارةَ حقّ أو يرغب في حياة؟ وتتوالى الأسئلة عن مستقبلهم الذي يعدّ صورة الغد، فكيف ستكون تلك الصورةُ التي بدأت ملامحها بضياع الدار والجار والسمّار والأهل! من لديه أطفال فلا يمكنه ولو للحظة أن يتصورَهم يمرون بموقفٍ مشابهٍ لما يمرّ به النازحون والمحاصرون والمحاربون من الأطفال في العراق وسوريا، إلا أنّ أطفال البلدين لا يمرّون بهذه اللحظة.. إنهم يعيشونها.

حياتُهم لا تعرف للراحة معنى، والموتُ برهبته واردٌ في الأحداث اليومية المتوقعة في قاموسهم الصغير، وربما يعدّه أولئك الأطفال راحة وخلاصاً من مفرداتٍ أخرى في ذلك القاموس كالكيمياوي والجوع واليتم والضياع. أطفالنا ليسوا بمعزِلٍ عن تلك الأحداث، ولسنا بعيدين عن ذلك الخطر إنْ لم يكن هنالك حلٌّ لإطفاء النار المستعرة منذ سنوات، وربما يكون القادم أعظم، إن لم نتدارك الوصولَ إلى قعر الهاوية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.