شعار قسم مدونات

النعاج المئة!

blogs- القرآن
جاء رجلان إلى سيدنا داوود عليه السلام، يشتكي أحدهما الآخر بعد أن ألح عليه، وأغلظ في طلب ضم نعجة أخيه الوحيدة إلى نعاجه التسع والتسعين، فقال سيدنا داوود من فوره "لقد ظلمك بسؤال نعجتِك إلى نعاجه"، فعاتبه رب العزة في قرآن يتلى إلى يوم الدين لحُكمه على الرجل من ظاهر القصة قبل أن يستمع للطرف الأخر، فقال تعالى "يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه".

تنزّل العتاب الرباني لصاحب السلطان العظيم لحكمه على من ظاهره مظلوم وباطنه مجهول؛ أن أخاك ظلمك لمجرد السؤال، دون أن يتثبت أو يستمع للطرف الآخر، ليبين له أن المُلك لا يستقيم إلا بالعدل، في حين لم ترد القصة في القرآن الكريم للتسلية وإمتاع السامعين، بل جاءت إرساءً لدعائم الأمن والحق والاستقرار في مكونات المجتمع كافة.


اعلم أنّ الله سيُحاسبك إن غلوتَ في إرضاء أحدهما، أو جارت أحكامك على الآخر، كُن مُقسطاً مع أشقائك، ولا تسلب الحق بكِبرٍ أو قوامةٍ أو تجبر، واعلم دائماً أن العدل لا يُقام إلا حينما يُقيمه كل واحدٍ منا في نفسه!

والناظر إلى مجتمعاتنا؛ فإنه للوهلة الأولى سيوقن أن العدل مدفون في قبر منذ عقود، قُرئت عليه الفاتحة، وعُميتِ الأبصار أن تقرأ آيات الرحمة على الشعوب، وفي مجتمعاتنا التي يحكمها حفنة من الدكتاتوريين الذين لم يسمعوا بالعدل إلا في الكتب المدرسية – إن كانوا قد تلقوا تعليماً مدرسياً في صغرهم- نصّبوا أنفسهم ميزاناً للحكم على ملايين البشر، فخلقوا جهنماً للعوام وجنةً للحُكّام.

يصيبك وهمٌ بأن ذاك الذي ينثر الحب على الأطفال في مدينته، ويُغني بمعاني السلام، ملاكٌ من الرحمة، لكنهُ شيطانٌ من العذابِ يُسلّط على أطفال مدينته المجاورة، التي يُحرق صغارها وهم أحياء، تُمطر عليهم براميل الظُلم والحقد والطغيان، تتشوه معالمهم، ويُنكل في أجسادهم الغضة، وهو لا يزال يبتسم لغيرهم.

الكُل يُنافس الكُل، ويستفتي طرقاً للقمع أشد وأقوى، وتسيل لعابه لجمع المالِ من جيوب الفقراء أو تلك الفكة التي في أيديهم، بينما لا يتوقف عن رفع مخصصات العاملين ومعاشاتهم في المؤسسة الأمنية والعسكرية في بلد أقصى ما يحلم به الملايين بحياة تشبه الحياة، أو رغيفاً واحداً من الخبز وليس بالضرورة أن يكون صالحا للأكل.

في مجتمعنا العربي، ما زلنا نعاني منذ ولادتنا من الظلم الملاصق لنا، ظلمُ رأسي من أعلى الهرم حتى قاعدته المنكوبة والتي نمثلها نحن، فإن كانت أرواحنا قد اتسعت أعواماً من الظلم، فذاك أدعى أن نُحرّمه على أنفسنا، وأجدرُ بنا أن نوصد كل الطرق التي تؤدي بنا إليه.

إن العدل من أعظم القيم الإنسانية النبيلة التي أمرنا بها مولانا جل في علاه، وأرسل رسله بالكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط، ويحكموا بالعدل، ويردوا الحقوق إلى أصحابها، فما أعظم أن يكون تحقيق العدل المقصد الأول من إرسال الله تعالى رُسُله، وإنزاله كتبه.

كثيرٌ منّا من يحصر العدالة بين جدرانٍ أربعة، ولافتة صغيرة، كُتِب عليها بلون ذهبي لامع "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، وقاضي واثنين من مساعديه ومتهم ومحامين وعدد من الحاضرين، لكن العدل أعظم من فهمنا القاصر لهذا الأساس الإنساني القويم.

ليس شرطاً أن تكون قاضياً موظفاً في وزارة العدل أو مجلس القضاء الأعلى لتحكم بين الناس بالعدل، فأنت قاضٍ في شقاقٍ صغير بين اثنين من أطفالك تنازعوا على أحقية الدمية لمن، وأنت قاضٍ إن طغى موظف يعمل في شركتك على زميله، أو كلمةٍ أصابت قلب أحدهم بوهنٍ وألم، وتذّكر دائماً أن تضع ميزان العدل أمام عينك، وجاهد في رد الحقوق إلى أصحابها دون إفراط أو تفريط.

كُن عادلاً حينما تتحدث إلى أحدهم، وحينما تبيع وتشتري، لا تبخس للناس حقوقهم، فمتى عدلت بذلك كله، تكن قد عدلت في حق الله وفي حق عباده

ولنا أسوة حسنة بسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جاءه رجل، وقد فقئت عينه يشتكي خصمه، أشفق الصحابة رضوان الله عليهم عليه، فقال عمر انظروا لمن فقأ عينه فقد يكون فُقئت عيناه معا، وهذا درس يُخلده أمير المؤمنين إلى يومنا هذا ألا تُحكّم العاطفة في الحُكم على الناس ولا العدل بينهم، فذاك أدعى لظلمهم أكثر، ومتى اتبعنا الهوى سنضل عن طريق العدل والحق لا محالة.

عزيزتي القارئ، نصّب نفسك قاضياً حينما يحتد الخلاف بين اثنين من أحبابك، كن سداً منيعاً أمام اتساع رقعته، واستحضر العدل في أحكامك قبل أن يُقام في يوم العدل الأكبر.


كُن عادلاً حينما تمنح الحب لأبنائك، في بسمة، أو قبلة، أو هدية، واعلم أنّ الكلمة قد يُبنى عليها جبل العمر أو يُهدم، كُن منصفاً في عطائك إليهم، واعلم أنّ الله سيُحاسبك إن غلوتَ في إرضاء أحدهما، أو جارت أحكامك على الآخر، كُن مُقسطاً مع أشقائك، ولا تسلب الحق بكِبرٍ أو قوامةٍ أو تجبر، واعلم دائماً أن العدل لا يُقام إلا حينما يُقيمه كل واحدٍ منا في نفسه!


كُن عادلاً حينما تتحدث إلى أحدهم، وحينما تبيع وتشتري، لا تبخس للناس حقوقهم، فمتى عدلت بذلك كله، تكن قد عدلت في حق الله وفي حق عباده، واعلم أن ذاك لا يأتي إلا باستقامة النفس، واستشعار مراقبة الله لك، وتذكر قول الله في الحديث القدسي "يا عبادي إنِّي حرَّمْتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا فلا تَظالموا" فلا تُحل أمراً قد حرّمه رب الخلائق والعباد حتى على نفسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.