شعار قسم مدونات

العلم للجميع والأيدولوجيا لصاحبها

blogs - نظريات علمية
"كما هو معتاد في حالة كل نظرية علمية جديدة، كان هناك اتجاه من كل فيلسوف نحو تفسير أعمال أينشتاين على نحوٍ يتفق ونظامه الميتافيزيقي، ولأنه يقترح أن المحصلة هي نصرٌ للآراء التي يعتنقها هذا الفيلسوف" برتراند راسل.

مما لا شك فيه أن المنظومة العلمية الطبيعية قد أوصلت الإنسان إلى مرحلةٍ متقدمةٍ من التطور والتقدم، مما انعكس إيجاباً على حياته وكيانه، فتقدم الطب موفراً حياةً صحيةً أفضل، وتقدمت الهندسة فحققت الرفاه في السكن، واختصار الوقت في السير، وتقريب البعيد في الاتصال، إلى أن أضحى العالم بمثابة قريةٍ واحدة بفعل شبكة عنكبوتية جسدت ما وصل إليه العلم الحديث من مراتب ربما توصف بالخيال، لكن هذا ما صار إليه الأمر، وما كان ليصير إلى ما هو عليه إلّا بتلك المنظومة العلمية التي ضربت جذورها بعمقٍ في أرضية التأثير الإيجابي في القرن العشرين.

بيد أن العديد من النّظريات العلمية التي شكلت تلك المنظومة قد خضعت لعمليات حقنٍ أيدلوجية كثيرة، من قبل أغلب المذاهب الفلسفية والأيدولوجيات الدينية الحالية لتبرهن بمنطق العلم التجريبي -الذي تضخم تقديسه في عقول النّاس بفعل ما أرفده إليهم من تطور وازدهار- أنّها على الحق وأن سواها زيغٌ وضلال، ولقد تولى كهنة الإلحاد كبر هذا المسار، بحيث جعلوا كل نظريةٍ علمية بمثابة الدليل والبرهان على إلحادهم، فمن نظريات الميكانيا الكلاسيكية التي أظهرت الحتمية إلى نظريات ميكانيكا الكم التي شككت بها، ترى الأدلجة بوضوحٍ لا يواربه شك، إنّها أدلجة لا يعنيها التناقض بين تلك النظريات بقدر ما يعنيها البرهنة على الأيدولوجيا، ودعوى أنّ لا إله والحياة نتيجة صدفة عشواية عمياء.

أغلب النظريات العلمية التي كانت محل إجماعٍ أثبتت خرافتها فيما بعد كنظرية التوالد التلقائي، فما بالك بنظرية لم يقع الإجماع على صحتها؟! كيف تؤول نصوص الشريعة وتخالف قطعيات الدين في أصل الإنسان من أجلها.

وإن أكثر نظريةٍ "علمية" تعرضت للاغتصاب الإلحادي هي نظرية التطور، فإنك تجد النظرية بمثابة وتد الخيمة الإلحادية بانهيارها ينهار الإلحاد، فما من ملحدٍ من الملاحدة إلّا ويسوق النظرية في محل التأسيس لإلحاده وكفره بالخالق، بل إن عرّاب الملاحدة (ريتشارد دوكنز) في كتابه المشهور "وهم الإله" قد جعل النّظرية لب الإلحاد وقشره، وأنزلها منزل الحقيقة العلمية التي لا تقبل النّقاش، على أن توظيف النّظرية لم يقتصر على الملاحدة فحسب، إذ إن النظرية في مجالها التفسيري قد اخترقت العديد من الحقول المعرفية الأخرى كعلم الاجتماع والنّفس والاقتصاد… الخ، بل ترى أن النظرية كانت محل احتفاء عند الشيوعيين في نظريتهم الفسلفية للتاريخ، وتأسيساً في الوقت نفسه للرأسمالية التي وجدت في النظرية ما يفسر انحصار ثروة العالم بأيدي ثلةٍ قليلة من الرأسمالين باعتبار ذلك أمراً طبيعاً برهن عليه "العلم" الدارويني.

ثمّ إنك ترى أن تلك النزعة "أدلجة العلم" قد وصلت إلى بعض المنهزمين نفسياً من المسلمين فأخذوا يحاربون في سبيل إثبات أن القرآن قد دل على بعض النّظريات وأنّها دليلٌ على صحة الإسلام إلى أن وصل الأمر بأن يبرهنوا على صدق نظرية التطور بالقرآن فخالفوا نصوص الشريعة القطيعة التي تخالف النّظرية وطفقوا يحرفون ويؤولون، فعلى الرغم من أن نظرية التطور تلقى رواجاً في الأوساط العلمية الغربية إلّا أنها في شقها المسمى التطور الكبير (macroevolution) غير خاضعةٍ لشروط العلمي التجريبي، إذ لا يوجد دليلٌ أمبريقيٌ واحد يبرهن على هذا الشق، بل إن النظرية إلى الفلسفة أقرب منها إلى العلم، لكن انهيار المنظومة الدينية الذي عصف بأوروبا عقب الثورة الفرنسية، جعل النّظرية بمثابة البديل الوحيد لتلك المنظومة، فكان لا بد من التقعيد لها علميا، فأضحت اللاهوت البديل الذي ترده كل العلوم بما فيها العلوم الإنسانية التي لا تدخل نطاق التجريب أصلاً، بل أصبح كل عالمٍ يخالف النظرية معرضاً للطرد من مؤسسته التي يعمل بها، ومن أراد الدليل على قولنا فليشاهد الفيلم الوثائقي (مطرودون).

أمّا المسلم فالأصل أن يكون موقفه من العلم التجريبي موقف التمحيص والغربلة، لا موقف المتلقي الجاهل، فإن كثيراً من النّظريات التي يروج على أنّها "علمية" كنظرية التطور مثلاً، ويدعى الإجماع على علميتها، يقف خلف ذلك كله أسباب أيدولوجية اقتصادية بل وسياسية حتّى تدفع بهذا الاتجاه، بل إن أغلب النظريات العلمية التي كانت محل إجماعٍ في الوسط العلمي أثبتت خرافتها فيما بعد كنظرية التوالد التلقائي وغيرها، فما بالك بنظرية لم يقع الإجماع على صحتها؟!

كيف تؤول نصوص الشريعة وتخالف قطعيات الدين في أصل الإنسان من أجلها ومن أجل إثبات صحتها؟! ما هو موقفك إن تغيرت المنظومة الغربية بعد مئة عامٍ فرمت نظرية التطور خلف ظهرها، هل سترمي "دينك" الذي أثبت التطور معها؟! أمّا حقائق العلم التي قطع العلم بصحتها فهي للجميع لا لأيدولوجيا معينة، فمجال العلم أن يبحث في الكون بأدواته التجريبية والأيدولوجيا والعقائد لا تخضع للتجريب، وهي في ذات الوقت لا تخالف دين الله الحقّ، دين الإسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.