شعار قسم مدونات

الجهل بين الدين والعلم

blogs - كتاب في ظلام
نعم فالجهل يحمل صبغتين: هما صبغة دينة وصبغة علمية، فالأول هم الناس الذين يركضون وراء الدين دون إدراك أو تفكير، وأصبح الدين عندهم عادة خرجت من طور العبادة؛ فلا يفكرون في شيء، وأخطرهم الذين تركوا الحياة وتفرغوا للزهد والتعبد. إن الاسلام أتى لقيضي على الجهل، وإن الله لا يعبد عن جهل بل عن علم ومعرفة، وفي اعتقادي أنه أخطر أنواع الجهل لأنه جهل مجتمعي وليس فردي، وأثاره تظهر على المجتمع بشكل عام، والدليل ما نراة في زماننا الآن من حروب وكوارث وصراعات مغلفة باسم الدين، فكل طرف يقاتل ويقول إن الله يقاتل معه وأنه يقاتل في سبيله.

أما القسم الثاني فهو الجهل المغلف بالعلم والانبهار وراء الثورة العلمية والتكنولوجية والتي أخرجت الإنسان من إنسانيته واجتماعيته إلى مجرد آلة أو مستهلك، ومع انتشار وسائل التواصل لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع أخبار هناك دراسة تؤكد والباحثون توصلوا، وغيرها من القصص التي تشد الجهلة لكي يسبحوا في بحر جهل مصبوغ بلون العلم، فيشد إليه الهواة الباحثون عن أي إعجاز علمي أو بحثي دون أن يستندوا إلى أي دليل مادي أو أي دراسة موثوقة، وهذا من أسوأ أنواع الجهل في اعتقادي، لأنه يجعل صاحبه لا يعترف بجهله، بل ويصر عليه بحجة العلم.

إن العولمة والحداثية سلبت شعوب العالم الثالث هويتها وثقافتها؛ بحجة العلم والتقدم، وراحت شعوب العالم الثالث تتهافت وراء كل ما هو حداثي وجديد، ونسوا هويتهم وثقافتهم، وهذا أظهر مفهوما جديدا وهو، الحرب العصرية هي أن تستطيع التحكم في الآخر دون إشعاره أنه ليس في حرب أو أنه حر في قرارته واختياره، لقد أصبحنا نفخر بكل ما هو غربي، وننتقد كل ما هو لنا، حتى ثقافتنا وهويتنا، وأصبحت شخصيتنا مهزوزة وهشة، أصبحنا فقراء فكريا وثقافيا. إن قيمة كل واحد منا على قدر إيمانه بنفسه، فلم يبق لدينا ثقة وإيمان بأنفسنا وأصبحنا مجرد تابعين وراءهم في كل شيء، إلا العلم فنسبح وحدنا في بحر الجهل.

الجهل ليس مجرد مشكلة فردية بل هو خطر ووباء يهدد مجتمعات كاملة وحضارات، فكم من حضارة قضت على الجهل وامتدت لعشرات السنين وكم من حضارة هزمها الجهل وأفناها.

إن القوة -وأقصد هنا القوة المالية أو العسكرية- التي لا يصاحبها فكر وعقيدة راسخة تسقط وتهوي ولا تصنع حضارة، فمثلا في القرون الوسطى، وقتها كان المسلمون يمتلكون العقيدة القوية والفكر، كانوا أقوياء وقفوا في وجة أقوى إمبراطوريات ذلك العصر.

المثال الثاني هي اليابان، أقوى مثال على أن الثروة لا تصنع شيئا لوحدها، وأن العقيدة والفكر هما من يصنعان الثروة الحقيقية، كلنا نعلم أن اليابان خرجت من الحرب العالمية الثانية دولة مدمرة ومنهكة ليس لديها أدنى مقومات الدولة، ولكنها كانت تملك أقوى من ذلك، الفكر والعقيدة التي بنوا بها دولة وحضارة وثقافة.

الجهل المجتمعي أو اللادراية الاجتماعية هو تفصيل الدين على حسب المكانة الاجتماعية، فلا يقدر الناس على محاسبة علية القوم، فيبحثون، وراحوا يركضون وراء فتاوى أو تبريرات لهم لفعلهم تلك الأعمال. هذه الظاهرة موجودة في زماننا واسمها النفاق الاجتماعي (وهي النظر لمن فعل الشيْ وليس للشيء نفسه سلبيا أم إيجابيا). أي إذا فعل شخص ذو مكانة اجتماعية مرموقة عملا مشينا، يتهافت الناس لتبرير الموقف أو حتى يصل بهم الحال إلى إجازة الفعل نفسه، وإذا شخص عادي فعل نفس الفعل ينتقدونه أشد انتقاد.

إن من أهم طرق سحب العقول، الإلهاء المباشر وغير المباشر، وهي كثيرة، منها تسفيف الأمور الكبيرة وتعظيم الأمور الصغيرة، وهذا موجود الآن في زماننا، نلاحظ الكوارث والمصائب ونجد الكثير مشغولين بقضايا صغيرة، سواء دينية أو دنيوية، مثلا حرمة الأكل والشرب من اليد اليسرى، ويتكلمون عن قضايا مر عليها أكثر من 14 قرنا، ومنهمكون بمن يدخل الجنة ومن يدخل النار.

إن الجهل أساس كل الشرور كما قال أفلاطون، فالجهل مع الدين إرهاب، والجهل مع الحرية فوضى، والجهل مع الثروة فساد، والجهل مع السلطة استبداد، والجهل مع الفقر إجرام، وهو أسوأ آفة قد تبتلى به أي أمة.

إن الجهل ليس مجرد مشكلة فردية بل هو خطر ووباء يهدد مجتمعات كاملة وحضارات، فكم من حضارة قضت على الجهل وامتدت لعشرات السنين وكم من حضارة هزمها الجهل وأفناها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.