لقد قرأتُ نصّ أستاذنا المشار إليه، مرّاتٍ ومرّات، لأستشفَّ سرَّ تأثيره فيّ، فوصَلتُ بعد طول نظَرٍ، إلى أنّ الوصفة السّحريّة، التي اعتمدها في صياغة نصّه، والّتي اِستَعَاضَ بها عن شاعريّة اللغة، تتمَثَّلُ في شاعريّة الوصف، ورَوعِةِ الحَكْي، لقد أطلق أستاذنا الحَبْل على الغارِب للطفلِ الحالِم بداخلِه، فما كان من عبد الجواد سيّد، الكَهل إلّا أن دَوَّنَ ما أملاه عليه وَحيُ الطفولة.
كانت تأتيني وأنا أتَمطَّقُ حروفَ ومعاني نصَّ السيرة الذّاتيّة هذا، فتنةُ الإسكندريّة، محمولَةً على صوتِ المبدع محمد الحلو، وهو يغنّي جينيريك مسلسل زيزينيا، من كلمات الشاعر المصري الأصيل أحمد فؤاد نجم، وهو يقول إسكندراني عاِشق أغاني جيعان يِغَنِّي، شبعان يِغَنِّي، زيزينيا، إسكندريّة النّصف الأوّل للقرن العشرين، التاريخ، أسامة أنور عكاشة، ذكّرني بكلّ هذا، حتّى وإن كان يتحدّث عن إسكندريّة الستّينيات.
جعلني أرى الإسكندريّة بِعَينِ الحاوي، مدينة تسكن هوى أبنائها وعاشقيها، مدينةٌ يحملها أبناؤها بداخلهم ذكرياتٍ وحنيناً، لا تسرقهما السّنون مهما طالت، والمسافات مهما بَعُدَت.
هذا هو العهد بالأستاذ عبد الجواد، فهو يمنحني دائماً الشعور، أنّه يقيس كلماته، وجمله بالمسطرة، وهذا دليلٌ على أنّ سرّ الإبداع، لا يكمن في طول النصّ، أو في تراكم النصوص، وإنّما في نوعيّتها. |
لم أجد عملاً أدبيّاً أَقِيسُ عليه التُّحفَةَ الفنيّة المسمّاة شواطئ الستّينات، سوى رائعة بيدرو بارامو، للأديب المكسيكيّ الطليعيّ، مُلهِم خوسيه أيولا، وجابرييل غارسيا ماركيز، والأب الروحي للواقعيّة السحريّة خوان رولفو، الّذي دفعه لكتابتها زيارته لقريته بعد طول غياب، فما أحكَمَ جملة محمّد البساطي لو لم أخرج منَ القرية لَمَا كَتَبتُ عنها.
رواية بيدرو بارامو، حين تُحدّث دونيا إيدوفيخيس، خوان بيرثيادو، عن ميغيل بارامو، قاتل أخ الأب رينتيرا، وعن عودَةِ حصانه بعد مصرعه، فتسمع صهيلَهُ أثناء حديثه، فيجيبها خوان بيرثيادو "لا أفهم ما تقولين! بل حتّى أنّي لم أسمَع جَلَبَةَ أيّ حصان! لكنّني أنا وليد الأسطل، قد سمعت جيّداً أمواج شاطئ الإسكندريّة، وسبحتُ مع شبابها المغامرين، وجلستُ آكل السمك الذي طهَتهُ أمّ بسيوني".
لم أُورِد جُملاً من شواطئ الستّينات، لأنّني وجدتُ أنّ الأستاذ عبد الجواد سيّد، قد ركّبَ نصّهُ، كما تُرَكَّب الأُحجِيَة، التي لا معنى لقطعها وهي منفصلة، لذا أدعو إلى قراءتها كلّها، فهي كتلة واحدة، أو كجسدٍ متجانس، يكمن جماله في التناسق القائم بين أعضائه.
هذا هو تقييمي لنص الأستاذ عبد الجواد سيّد، شواطئ الستّينات، المثال التوضيحي الأمثل لتعريف ابن المقفّع، للبلاغة هي التي إن سمعها الجاهل، ظنَّ أنّهُ يُمكِنُهُ أن يأتيَ بمثلها. النصّ ليس طويلاً مملّاً، ولا قصيراً مُخلّاً، وهذا هو العهد بالأستاذ عبد الجواد، فهو يمنحني دائماً الشعور، أنّه يقيس كلماته، وجمله بالمسطرة، وهذا دليلٌ على أنّ سرّ الإبداع، لا يكمن في طول النصّ، أو في تراكم النصوص، وإنّما في نوعيّتها، فـالعقّاد، وما أدراك ما العقّاد، كان يرى أنّ بيت الشريف الرّضي، أفضل من رواية كاملة "وتَلَفَّتَت عيني، فَمُذ خَفِيَت عنها الطلول تَلَفَّتَ القلبُ"، المصدر كتاب الدكتور محمود السّمرة، محمّد مندور1907 1965، شيخ النقّاد في الأدب الحديث.
قصارى القول، يا من تدّعون عشق الحرف، ويا مَن تريدون تعلُّم الكتابة، أضع بين أيديكم نصّ شواطئ الستّينات، خاصّة، وباقي أجزاء السيرة الذّاتيّة، للأستاذعبد الجواد سيّد، بشكلٍٍ عامّ، وأقول لكم ما قاله ألفارو موتيس، عندما قدّم أوّلَ نسخة من رواية بيدرو بارامو، إلى ماركيز "خُذْ لكي تتعَلَّم".
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.